حكاية لأُولي الألباب

تتوالى التجارب على صاحبنا كأنها وقع السياط على جَسَدٍ واهٍ تكاد تنسحب الحياة منه. تذهب به تجربة منها الى الحدود القصيّة للشقاء، وتطوّح به أُخرى في أودية الأماني يهيم بها على وجهه زمناً ثم يعود منها حسيراً. وتضعه ثالثة في مهب التساؤلات تظل تؤزه، وترهقه صعودا، حتى تموت منه الحواس ويخمد الوعي فلا يعود يسمع لها رِكزا، فيغيبُ عن ذاته ريثما تفجأه تجربة جديدة قبل ان يتماثل من سابقتها، كل ذلك وهو يجهد في ان يلملم خيوط الاعتبار آناء ليله، واطراف نهاره، وان يخلص الى حِكمةٍ ما يعزّي بها نفسه، او يفيء اليها في الهواجر، او يجد روحاً عندها من لهاث، او مُستراحاً لعقله من التياث.

كان في رحلة طويلة وراء سلسلة من الجبال الوعرة، وكان له بعض جنى من رحلته، فأراد يهبط بما احنقبه من غربته الى السهل المترامي الذي غادره وان ينثر ما جمعه في السنين الطوال بين ايدي الناس، على الرغم مما كانوا ودّعوه به من سخرية وتهكم.
كان، اثناء عودته من الذرى الشاهقة يتقافز فرحا بما يتخيله من احتفال ذويه ومعارفه به، وكان يقول لنفسه: «انهم، لا ريب ينتظرونني، ولسوف اضع امامهم ما افدته من رحلتي الجبلية، وانذر لصلاح احوالهم البقية الباقية من عمري، ولسوف ابني معهم مجتمع المحبة والسلام والايمان والكرامة».
لكن صاحبنا ما ان اشرف، لاول انحداره من الجبال، على جمع من الناس، كان يظن انهم تجمهروا لاستقباله والاحتفاء به، حتى رآهم متحلقين حول جماعة من المهرجين يتلاعبون على حبال منصوبة، ويملكون بما يأتونه الألباب وينتزعون صيحات الاعجاب.
توفف صاحبنا، وقد اسقط في يده، حائرا. وطال به وقوفه. ولكن احدا من جمهور اللعبة القائمة لم ينتبه اليه. فلملم خيبته بهدوء أليم، ثم رجع من حيث اتى، وهو يقول:»إن هذه تجربة أُخرى اخوضها وانا على يقين باخفاقي، ولو كنت اسمع او اعقل لما توالى عليّ الحبوط ولما استشعرت كل هذا اليأس الذي يأخذني من اقطاري».
وقبل ان يمضي صاحبنا صُعداً في رحلة جديدة لا يعلم أيكون له متنفس من عمره للقيام بها، وقف قليلا يتأمل الحشد المأخوذ بالمهرجين ثم قال: «لا بأسَ، فقد افدت يأساً، واليأسُ هو «العلم» كما في لغة العرب الشريفة» ثم مضى لطيّته.