الخطاب العربي الإسلامي في صحيفة (القِبلة)

من يقرأ الأعداد الأولى من صحيفة (القِبلة) يتعاظمه الفرق بين وضوح الرؤية لدى العرب لأول انطلاقة النهضة، قبل مئة عام وبين ضبابيتها واضطرابها اليوم، على الرغم من قيام دول وممالك عربية على أساس قومي.
كانت العروبة واضحة المعالم لدى ذلك الرعيل بسبب وثيق من ارتباطها بالاسلام، وكان العرب الذين هم مادة الاسلام وحاملو مشاعله الى العالم، هم قوامَ الجامعة الاسلامية، وكان المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يرون نهضة العرب معادِلة لنهضة الاسلام نفسه ولمِعاودة حضوره القيمي والاخلاقي في العالم.
وقبل ان نمضي في بيان هذه الحقيقة، نحب ان نؤكد احترامنا وتقديرنا للاستاذ محمد الشرقاوي صاحب دار ورد الاردنية للنشر والتوزيع الذي انتهى اخيراً، وبعد جهد جهيد ومثابرة محمودة من طبع أعداد صحيفة القِبلة طباعة فاخرة في ثمانية مجلدات، الأمر الذي سيتيح للدارسين ان يكونوا بمشهد من انطلاقة النهضة العربية، ومن الظروف التي عاشها العالم عشية الحرب العالمية الاولى، وان يتبينوا هذا الذي ذهبنا اليه من وضوح الرؤية لدى زعماء العرب وأدبائهم ومفكريهم، والذي عَزوْناه الى ارتباط العروبة عندهم بالاسلام، والى كونهم استشعروا دورهم الحضاري ازاء هذا الدين العظيم الذي تنزّل بين ظهراني اسلافهم بلسان عربي مبين، وحملوا أمانة تبليغه الى الناس أجمعين.
لقد تضمن العدد الرابع من (القِبلة) – وقد أصدرت «الرأي» مشكورة نسخة عن هذا العدد يوم الخميس الموافق للخامس من أيار الحالي – مقالة بالغة الدلالة على ما نقوله، أرسلها من «عليكرة» في الهند «عبدالحق الأعظمي» بعنوان: «مكانة العرب في العالم الاسلامي»، وهي رسالة / أطروحة نحبّذ تدريسها في الجامعات العربية والاسلامية، وان تصدر ترجمات لها في اللغات الحية، وان يُنظر اليها بصفة كونها خطاباً اسلاميّاً امتزجت فيه تاريخيته بجوهريّة مقاصده، ناهيك بما اشتمل عليه من انصاف للعرب، وايمان بأهليتهم لقيادة المسلمين في الأرض، ولنشر عدل الاسلام ورحمته في العالمين..
تقول المقالة التي وردت من عليكرة في الهند الى مكة المكرمة حيث يُصدر «القِبلة» نفر من مثقفي العرب مرتين في الاسبوع «لخدمة الاسلام والعرب»: «اذا رغب المسلمون في بناء جامعتهم وحياة أمتهم ورفع كلمتهم وحماية شريعتهم وحفظ وجودهم وصيانة حقوقهم وان يُقام لهم وزن بين الأمم وتقوم لهم ومنهم دولة مهابة عزيزة بين الدول، وإن ارادوا ان يحافظوا على الوديعة التي اودعت لديهم، والامانة التي بعد ان عُرضت على السماوات والارض فأبيّن ان يحملنها فُوّضت اليهم، وهي وديعة التوحيد وأمانة الايمان بالعلي المجيد، وان يتموا ما بدأوا به من اصلاح البشر اصلاحاً يجمع لهم بين خيريْ الدنيا والآخرة، وسعادتيْ الروح والجسم وطيب المعاش والمعاد.. اذا ارادوا هذا ورغبوا في ذاك فالواجب على عامتهم وخاصتهم، قريبهم وبعيدهم، عربيّهم وعجمهم، ان يقوموا بإحياء البلاد العربية بكل وسائل الحياة، وتقوية «الأمة العربية» بجميع انواع القوى.
كما تقول الرسالة بعد ذلك: «وليعلم المسلمون حيثما كانوا، واينما وُجدوا، أنّ كل دولةٍ تنشأ لهم في اي بقعة من بقاع الأرض، وفي أي زمن من الأزمان، اذا لم يكن «العرب» بُناة اساسها، وأركان بنائها، وعمد صروحها، ومدبّري امورها، ومديري حركتها، واليد العاملة فيها، والقوة التي ترتكن عليها، والروح التي تسري في مفاصلها، والأًصل الذي تتفرغ عليه أغصانها وتنمو عليه أفنانها.. فهي دولة لا تدوم، ولا يحسُن حالها، ولا تسعدُ رعاياها، ولا يعتزّ بها الاسلام، ولا يُبث هديه وارشاده بواسطتها بين الأنام، ولا تقوم بما ندب رب العالمين العرب إليه من جعلهم هداة مرشدين، وأئمة وارثين، وزُعماء معلمّين، وقادة ناصحين، وسادةً عادلين».
ثم تقول الرسالة بعد ذلك: «إن فضائل الشعب العربي الكريم لا تزال كامنة فيه كمون النار في الزناد، واستعداده الفطري لا يزال راسخاً في طبيعته رسوخ الجبال على المهاد،ـ وخصائصه واخلاقه ومميزاته وصفاته لا تنفك قائمة فيه ومتمكنة منه، لا ينتزعها نازع، ولا يبدّلها تبدّل الاقاليم والمواضع، ولا تقْلعها اعاصير المظالم والزعازع».
ثم تهيب الرسالة بالمسلمين في شتى بقاع الأرض قائلة: «فيا أرباب الأفكار المُنيرة من المسلمين تفكّروا في حالكم، ويا اصحاب العقول الكبيرة من المؤمنين تدبّروا في مآلكم، ويا ذوي القلوب البصيرة من الموحّدين انظروا الى مصيركم في مِسِيركم، ويا أهل الغيْرة من الموحّدين هذا وقت الغيرة على دينكم وأُمتكم.. فقوموا، بارك الله فيكم فشُدّوا أزر العرب إخوانكم، وساعدوهم على حماية دينكم وحياط جامعتكم، وحفظ وحدتهم، ووقاية قبلتكم وكعبتكم؟
ثم تنتهي الرسالة الى توكيد أنه بحياة العرب تكون حياة أمة الاسلام من موتها العلمي والسياسي والحربي، وانها تعتزّ بعزّهم، ويعود اليها ما كان لديها من المدينة الفاضلة والحرية الشاملة والسيادة الكاملة والسلطة العادلة».
إن هذه المقالة (الرسالة) الواردة من الهند الى الحجاز تمثل فهماً عميقاً لدور العرب في الاسلام، اذ النبي صلى الله عليه وسلم عربي – كما ورد في مقالة أخرى في الصحيفة (الصفحة الرابعة) والقرآن الكريم عربي، والعلوم الاسلامية عربيّة والمدينة الاسلامية عربيّة.
فإذا زدنا على ما تقدّم ما جاء في مقالة ثالثة في العدد نفسه، تتحدث عن رأي الإمام الزمخشري في العرب والعربيّة، وعن دفعه لتخرّصات الشعوبيّة، فإننا ندرك ان وضوح رؤية ذلك الرعيل لمعنى العروبة مرفود بثقافة واسعة, وأنهم كانوا على بيّنة فيما يوجهونه من خطاب النهضة، كما ندرك أنْ لو استلم المفكرون العرب الراية من هذا الرعيل لكانت أمتنا على غير هذه الحال او لَمَا أدركها هذا المآل.
وإذا كانت هذه وقفة مع عدد واحد من أعدادٍ «القِبلة» التي سنظلّ مدينين لدار ورد الأردنية للنشر والتوزيع بفضل جمعها في أسفار ثمانية حافلة بأسباب النظر في ماضينا القريب ومستقبلنا الوشيك في آن، فإن لنا أن نتصور أهمية المعطى العلمي (والوجداني) الذي سنكون ظاهرين عليه بعد أن صار في الإمكان أن نقرأ «القِبلة» كلّها، وأن نفيد إفادة (يقدرها العُقلاءُ قدرها) من ذخائرها..