الأردن وبيت الدفيئة.. «الاقتصاد غير الرسمي نموذجاً»

الساعة الثانية عشرة ليلا في جنوب عمان وشرقها وصوت الباعة المتجولين على غير العادة يصدح منذ شهر متنقلين في سيارتهم نصف النقل او باصاتهم الصغيرة؛ هربا من الملاحقة وبحثا عن ارزاقهم. في المقابل اصوات قنابل غازية ومفرقعات قادمة من مخيم الوحدات وعمود دخان متصاعد؛ لننتقل الى صورة اكثر درامية محيرة في وسط البلد، حيث اختفت البسطات وعاش اصحابها في رعب دائم خوفا من الملاحقة، وشبان خمسة يريدون الانتحار جماعيا في العبدلي لتكتمل الدراما؛ فالمسؤولون يريدون تطوير عمان الشرقية والجنوبية املا في تطوير السياحة او غيرها لا احد يعلم، وكان وسط البلد يحتوي على أهرام الجيزة.
وسط البلد حاله كحال العبدلي «سوق البالات سابقا» يمر به العمال والموظفون ويشترون بضائعهم كعابري سبيل، لا كمشاركين في مهرجان او كرنفال، كحال «سوق جارة في الويبدة الوداعه»، وبحسب ما تيسر وتوفر في جيوبهم من دنانير قليلة بعد يوم طويل من العمل او المراجعات الصحية او الحكومية؛ فالموقعان مثلا عقدة مواصلات تتيح المجال لمرور الناس وقريب من مساكن هؤلاء الباعة البسطاء، ما يجعل من العملية محدودة التكاليف سواء للبائع أم المشتري.
نقل سوق العبدلي الى منطقة تمتاز بضعف المواصلات العامة ادى الى تراجع الاقبال على سوق البالات، ورفع من الكلفة على البائع والمشتري عابر السبيل الذي لن يخصص يوما للمرور بهذه الاسواق البعيدة عن الحركة الكثيفة للسرافيس والباصات والتكسي او المواقف المتيسرة كما هو الحال في وسط البلد، هي الظاهرة ذاتها في اربد والزرقاء والمفرق وعمان، القرب من مراكز السكن ورخص اجور النقل وتوفر العمالة الرخيصة والاسعار الزهيدة والوفر المالي البسيط في جيب عابر السبيل معادلة يعجز جهابذة الاقتصاد والعقول المنفتحة عن فهمها.
فالاقتصاد غير الرسمي اسهم بـ 25 من حجم الناتج القومي الاردني بحسب دراسة قدمها دكتور الاقتصاد خليل عليان قبل مايزيد على 15 عاما، وإزاء التراجع في اداء الاقتصاد الرسمي خلال السنوات العشر الماضية، فإنه من الطبيعي ان تتسع نسبة مساهمة هذا القطاع في ظل فشل المؤسسات الرسمية والقطاعات الانتاجية في توفير الوظائف والاعمال للشباب، او حتى في توفير السلع الرخيصة التي يوفرها العاملين في هذا القطاع للمستهلك؛ فالثروة ازدادت تركزا في ايدي فئة محدودة في مقابل ثبات الاجور، وتآكل الدخل لدى الطبقة المتوسطة والفقيرة لتتراجع القدرة الشرائية بشكل ملحوظ، في حين لم يستفد العامة من المشاريع الكبرى والبنايات الخلابة.
الدولة ممثلة بالحكومة ومؤسساتها الرسمية والقطاع الخاص المنظم فشلت في توفير الوظائف، بل دخل القطاعان في صراع على القوانين والتشريعات التي ادت الى انسحاب الكثير من رؤوس الاموال، واغلاق الكثير من المصالح التجارية، امر ترافق مع تفاقم الازمة الاقتصادية والركود والمديونية؛ نتيجة الاوضاع الاقليمية المتدهورة، ورداءة التخطيط الاقتصادي، أما المنح والمشاريع الصغيرة فأصبحت هواية المجتمع المخملي عبر «آرمات» توزع في الاحياء الشرقية اشبه بدعوة لتلقي معونة وطنية تزيد من حالة الكسل والاتكالية.
فالبطالة ارتفعت الى ما يزيد على 15%، في حين ان هناك تقديرات غير رسمية ترى انها بلغت حاجز الـ 30%، إذ تراجعت الصادرات الزراعية والصناعية، ومثال ذلك الاعلان عن تراجع صادرات الاردن الزراعية شهر نيسان الماضي 30%، في حين تراجعت الصادرات الصناعية الى اكثر من 50%؛ ما يفسر اغلاق اكثر من 2000 مصنع وشركة ومؤسسة في الاردن وتسريح عمالها، الى جانب قيام دول الخليج بتسريح نسبة لا بأس بها من العمالة لديها؛ نتيجة تراجع اسعار النفط، وتعطل المشاريع الكبرى لديها؛ فالبدائل تبدو قاتمة للطبقة المتوسطة المتهالكة او الفقراء، فلا احد ينتظر كنزاً من السماء، او ان يكون للمنح والمساعدات والقروض والتخطيط الحكومي أثر في حياته.
وهنا تظهر اهمية القطاع الاقتصادي غير الرسمي المتنامي، بعيدا عن هذه الجلبة والصخب للهروب من الازمة الخانقة، وصراعات النخب السياسية والاقتصادية وانشغالاتها، مسألة تجعل من الضروري تحليل البيانات الاقتصادية والاجتماعية للقطاع غير الرسمي قبل اتخاذ اي خطوات متهورة، والعمل على تنظيمه عبر قوانين وتشريعات ونقابات تساعد على تراكم رأس المال، وتجني الإيرادات عبر الضرائب البسيطة، الى جانب مراقبته؛ منعًا للجريمة، وأعمال البلطجة المرافقة.
ففي السنوات الاخيرة الخمس، انتشرت تجارة المفرق المتنقلة بشكل واسع في عمان والزرقاء واربد والمفرق الرمثا والسلط وغيرها من المدن الاردنية، ووفرت دخولًا، وشغلت العمالة من الشباب، تخلَّق عنها بعض الظوهر الاجتماعية السلبية التي لا مناص منها في ظل غياب التنظيم والرقابة من شاكلة التصارع بين ابناء هذا القطاع، الى جانب جرائم ارتكبت، واذا نُظر اليها من زاوية ضيقة فإنها تنقص هذا القطاع حقه في تحقيق التنمية، ومراكمة رأس المال، وتوفير الوظائف للشباب، ومعالجة مشكلة الفقر، وتوفير السلع الزهيدة الثمن للمواطن البسيط.
في ظل الركود، فإن الاقبال على هذا القطاع ازداد، إلا أن الغريب أن هجمة مضادة من مؤسسات الدولة شُنت على هذا القطاع، دون دراسة تبحث في السلوك التجاري للبائع والمستهلك والخيارات التي دفعت نحو اماكن بعينها، ودون التفكير في الآثار السلبية بإضافة جيش من البطالة، والأسر الساخطة الى القائمة، ودون توفير بدائل مقبولة؛ ففرغت الاسواق من هولاء الباعة، بل إن كثيرًا من اصحاب السيارات المتنقلة اصبح يجول إلى ساعات متأخرة من الليل بعد الحادية عشرة في محاولة لبيع منتجاته، بعيدا عن رقابة المؤسسات الحكومية، وهي ظاهرة آخذة في الانتشار في الاحياء السكنية بدأ الناس بتقبلها لم تكن معروفة؛ لتعكس مقدار الحاجة، واعتماد هذه الفئة على اعمالها، فالحاجة أم الاختراع لتستمر المعضلة في التطور، وتستمر الابتكارات، وعمليات التحدي للعقول الاقتصادية الفذة والمخططين الرسميين.
الحملة الواسعة التي شنت خلال العامين الماضيين كان عنوانها هيبة الدولة، وشكاوى التجار الذي يسهم اغلبهم في هذا القطاع بطريقة غير مباشرة، شملت الزرقاء واربد، وبلغت ذروتها في العبدلي ووسط البلد ومخيم الوحدات دون ان توفر بدائل معقولة، او ان تحاول تنظيم هذه القطاع ليمثل قيمة مضافة الى الاقتصاد الوطني، يساعد على تراكم رأس المال، وتوفير ضرائب للخزينة، بل دون مشاورة او جدل مجتمعي يفضي الى البحث في افضل السبل لتنظيم هذا القطاع النامي في ظل ازمة اقتصادية خانقة؛ فالنخبة منشغلة في خوض صراعاتها والتفنن في هندسة قوانين انتخابية وبلدية من اعلى، قاطعة الصلة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي المتطور والمتدهور، مكرسة بذلك الازمة، وقاطعة الصلة بين القمة والقاعدة الاجتماعية.
القطاع غير الرسمي اتسع وازدهر على هامش الازمة الاقتصادية، وتآكل الطبقة المتوسطة وتلاشيها تقريبا في عمان الجنوبية والشرقية، بل الشمالية، ليسهم في اقل التقديرات بـ30% من حجم الناتج القومي، وليعالج جزءًا مهماً من البطالة المتفاقمة، وليوفر سلعاً تسمح للاسر بتوفير الاساسيات فأين هي العقول النيرة التي تسعى للقضاء على هذا القطاع دون تخطيط او بدائل معقولة.
فتجميل مدينة عمان وشرقها كحال سائر المدن لا يكون بزيادة عدد العاطلين من العمل، ومفاقمة مشكلة الفقر فيها؛ فالاصرار على مزاحمة الفقراء على ارزاقهم، سيكون له تداعيات اجتماعية وسياسية تضيف متغيرا جديدا، يرفع من درجة حرارة بيت الدفيئة.