من نقش على حَجر إلى فيسبوك وما بعده

أخذنا نتذكّر مع أصدقائنا قُدامى الشيوعيين كيف كان العزيز محمد سعيد مضية، أطال الله في عمره، يختلي بالواحد منّا، فيُسحب من عبّه ما يُشبه وُريقة صغيرة، ويغمسها في يدك، وفي عينيه إشارة سريّة: أن ضعها في جيبك، ومع تكرار الأمر صرنا نعرف أنّها منشور سرّي، أو أنّها جريدة "الجماهير”.
ذلك كان في الثمانينيات، وحين كنّا نختلي بأنفسنا، نُسارع إلى فتحها، لتتحوّل من وُريقة مطوية أشبه ما تكون بطلاسم كتبها مشعوذ إلى صحيفة ملأى بالمواقف، والمعلومات، وأقلّ قليلها هجاء الحكومات، وفضحها، ولهذا فأبو فؤاد كان يختار من سيعطيه "المنشور”، لأنه إذا وقع في يد غير أمينة فالسجن هو مبتدأ ومنتهى الحكاية. وتلك أيام للذكرى، ولكنّ الذكرى تنفع المؤمنين، فقد تحوّل المنشور السرّي، في مرحلة لاحقة أكثر ديمقراطية إلى صحيفة أسبوعية، وتحوّل بعدها إلى موقع الكتروني، وها هو يصل إلى وسائط مجتمعية لا تكتفي بالكلمة ولا بالصوت والصورة، بل يمكنها أن تصل مباشرة إلى المعنيين بالأمر، حتى لو كانوا في بيوتهم أو سياراتهم، أو في أيّ مكان آخر.
ولن نعود إلى بدايات الاعتراضات التاريخية على الفساد، وذلك النقش على الحجر الذي وُجد في سوريا، قبل سنوات، ويؤرخ لما كان يملكه كبار القوم على حساب صغارهم، ولن نعود إلى بدايات المطبعة وما فعلته من ثورة احتجاجية، ولا حتى إلى راديو الترانزيستور الذي سمح للناس بالاستماع إلى ما يدور حولهم من الخارج.
ولن أعود، أيضاً، إلى محمد سعيد مضية ومنشوراته، ولا إلى الانترنت، وفيها الفيس بوك وتويتر وانستغرام ويوتيوب وغيرها، ولكنّني سأذهب إلى المستقبل الذي سيظلّ يخترع وسائل تعلن من خلالها الناس قولة: لا للفساد والفاسدين، ومنها دوماً تبدأ ثورات، قد توصل إلى أهدافها، وقد تنقلب على أعقابها، ولكنّها تتواصل وتتواصل، فَمَن يفهم؟ هذا هو السؤال.