بـائعة الترمس



هي إمرأة ملتفحة بالسواد يحيط بها أطفالٌ أربعة ، ربما أكبرهم يبلغ العاشرة ، وعلى ناصية الطريق وفي زاوية مظلمة بعد الثامنة ليلاً ، تقف تلك المرأة بجانب فرش مستطيل خشبي ، تتكوم عليه أكياس مربوطة بأناقة مملوءة بالترمس ، وعلى كومة تراب وحجارة ترفد طريق عبدون والدوار الخامس ترفده بالوقوف على الرصيف المهمش ، تمد ذراعها لساعات دون ملل وتمد الكيس بكبرياء المخذول بيدها اليمنى ، وتمسك بطفلها الأصغر أو أخيه الثاني مانعة إياه من الإنزلاق على التراب تحت إطارات المركبات المتطاحنة .

لم أتوقف في المرات المائة أمامها كي أسألها بضعة أكياس من الترمس ، خوف التسبب بحادث سير حيث الطريق المنعطف الخطر ، والطريق المحروم من أدنى توقع للوقوف المفاجئ ، وهكذا بانسبة لغيري من الناس الممتطين لمركباتهم في هذه النقطة المقفرة ، ثم من يلتفت إلى شيء من هذا الطريق الخجول المنزوية المختفية تلافيفه ؟ وأكثر من هذا من يحتاج لترمس ضمن سائقي السيارات الصاروخية في هذا الوقت والمكان ؟ أيعقل أن يتوقف صاحب مركبة انطلقت من الإشارة لتصل إشارات أخرى في غمضة عين فجأة لإلتقاط أكياس الترمس أوطلب ترمسية مملحة ؟ وهو على سرعة الطريق المعتادة ؟ ثم لو توقفت أنا بعد اكتشافي لسر العائلة المترمس وطلبت منها بعضها ؟ فماذا يحدث لي ؟ بالطبع سوف أحتاط بكل ذخيرتي المرورية !! سوف أشعل الغمازين الممتازين المبرقين ، وأحاول إلتزام اليمين قبل المرأة بأمتار حتى أتجنب إخافتها وأطفالها أولاً ، وحتى أنذر المركبات خلفي حسب الخلق المروري .

وسوف أمد يدي بالنقود حتى أسعدها وأترك الباقي لها حتى تشعر أن الدنيا طبعا بألف خير ولن أنسى أنني تمنيت أن أكون مليونيره أو مسؤولا مهاب الجانب في الدولة أو على الأقل في وزارة الشؤون الإجتماعية ، حتى احتضن الحزن والجوع والتشرد والحاجة وووووووو....؟ وأقنع السيدة بعدم الركون لهذا المكان وأبعد الموت المحقق تحت عجلات السيارات عن هذه المرأة التي تختفي وأولادها في جنح الظلام لتطعمهم . وفعلا نجحت بعد محاولات مجهدة ولكنني نزلت بكامل خطتي ، وحين ألقيت عليها التحية وطلبت كل ما لديها من أكياس ترمس ، ضحكت بروعة السيدة الأم المربية الحاضنة لأسرتها وهمهمت : ليش كل الكمية ؟ بدنا نشتغل ونبيع ؟ لا أتسول والله يا أختي بل أبيع الترمس وأعمل في مستشفى في النهار ، ، وأعلّم اليتامى أولادي قيمة العيش الثمين ، وهم معي كما ترين .
أعلنت خوفي عليها وعلى أطفالها من الدهس وسألتها : ـ هل تجني ثمار هذه الوقفة الخطرة ؟ فابتسمت وأحببت ابتسامتها جداً وأجابت : ـ رزق أولادي ليس على أحد في هذا البلد ، وحياتهم ورزقهم على رب العباد !!! قلت لها وكيف تعودين في الليل إلى بيتك ؟ قالت بيتي قريب من هذا الوادي ونحن نرجع مشياً كما ناتي مشياً ! قلت لها : ودراسة الأولاد ؟ قالت : ولدي هذا الأكبر في الصف الرابع وهو الأول ومعدله عال العال وأخوه الثاني في الصف الثالث ومعدله في العلالي ! قلت لها : وابوهم ؟ قالت : رحمه الله توفي قبل سنتين بعد إصابة عمل في مصنع حديد ، قلت لها : أوصلك الليلة للبيت وأشتري الاكياس هذه كلها فأنا أحب الترمس ، قالت : حاضرين والترمسات هدية ما وراها جزية ، وصلنا البيت كان مرتباً جميلاً تزينه قواوير وردية بشتلة الخبيزة الحمراء وبجانب الباب الخارجي شجرة عالية وارفة تحتها زير مملوء بالماء وعلى راسه كوب مربوط ، مكتوب عليه سبيل !!! شربت من بيت السيدة الساهرة المربية الصابرة وجلست أتامل حلاوة الأولاد هذا معدله عال العال وأخوه معدله في العلالي ... وحملت ترمساتي كلها وحين تركت في صينية الترمس الفارغة مبلغاً كانت تحضر لي ثوباً مطرزاً بيديها قالت لي : أنا أطرز اثواب الحبر ايضاً وهذا يساوي المبلغ الذي تكرمت به ، فحملته على ذراعي باحترام وتناولت شربة ماء من السبيل وقطفت ريحانة من آنية يفور منها العطر لأعود مرة ثانية أرتدي الثوب ولا أنقطع عن بيت تسربل بالعطر والكرامة دون أن تدري عنه الدولة بائعة القضامة !