المعادلة الصعبة بين خدمة المجتمع وتحقيق الاستقرار المالي في الجامعات!


من ضمن الشعارات الرنانة التى نسمعها هذه الايام شعار الاستقرار المالي، أو "معجزة الصفر المكعب"، صفر منح، صفر ديون، صفر عجز فى الميزانية، وهو شعار سياسي بامتياز، الهدف منه إغراء صانع القرار ان يلتفت الى جامعة اردنية لم تصرف مزانياتها، وجعلت التوفير لمجرد التوفير اكبر همها واعظم اولوياتها، سواء من خلال تعظيم الايرادات، او الحد من النفقات وطبعا الغاية فى مثل هذه الظروف تبرر الوسيلة!
وقد ضُخم هذا الشعار حتى كاد ان يصبح علامة فارقة في تاريخ الجامعات الاردنية، التى يعاني معظمها من ضائقة مالية خانقة دون ان يتبادر للذهن كيف يمكن تحقيق هذه "المعجزة" بدون مشاريع استثمارية، أو اقتصادية او منتجات صناعية او تسجيل براءات اختراع او برمجيات يمكن ان تدر دخلا على الجامعة؟

الجامعات "العريقة" جامعات حية ومؤثرة تسهم فى صنع حضارة غير قابلة للزوال، والسر في فعاليتها تجديد ذاتها وخدمة مجتمعاتها، بانتاج افكار ونظريات قابلة للاستثمار ، لأن المفكر والباحث والعالم فى تلك الجامعات يدورون في حلقة التطوير ، وتحويل المكتشف العلمي سريعاً إلى طاقة إنتاج تدخل مباشرة للسوق كما هو الحال فى العديد من المدن الجامعية التى نشأت وترعرعت بسبب الجامعة التى تحتضنها، فهاهي جامعة بردو ومن خلال متنزهها البحثي تسهم فى ايجاد 4000 فرصة عمل، وجامعة شمال داكوتا تخلق ما يقارب من 1000 فرصة عمل، وجامعة فيلادلفيا 15000 فرصة عمل، عكس الجامعات الخاملة التي تعزل نفسها داخل اسوارها، وتركز على الاقتصاد فى النفقات، وتلجأ الى التوفير والتقنين والتقتير الى درجة التنفس من "منخر واحد"!!

فاذا كان الاستقرار المالي نتيجة للتوقف فى تعيين الاداريين ،والتوسع فى اعداد الطلبة المقبولين، الذين يجلسون فى قاعات مكتظة امام اعداد محدودة من المدرسين المحرومين من العمل الإضافي، فتلك بالفعل معجزة "صفرية" بامتياز ، لان جوهر الاستقرار المالي بالنسبة للجامعات الناجحة هو تأكيد التزامها بالمسئولية الاجتماعية " Social Responsibility" وتحقيقها بالعمل، بمعنى أن الاستقرار المالي الحقيقي فعلٌ وليست اتكالية على ما يدفعه الطلبة من رسوم ، او ما تدره الاكشاك الجامعية من دخل !!

في بلادنا يتم وضع خطط خمسة وعشرية لاستراتيجيات، وخطط تنفيذية لمنشآت صناعية وتجارية وبنى تحتية ومشاريع اقتصادية، ولكن يبقى التركيز على الجامعات والمؤسسات البحثية كأهم رافد في احداث الشاغر من الوظائف في الاقتصاد والتكنولوجيا، وهنا يبرز دور الجامعات "المؤثرة" فى تحضير الاجيال لبناء حضارة متواصلة العطاء، واذا كانت الجامعات"العريقة" استطاعت تكييف التعليم مع ما يحتاجه سوق العمل فى بلادها ليتوافق مع إمكاناتها المادية والبشرية وتقاليدها الراسخة، فإننا نحتاج فى جامعاتنا إلى دمج التنظيم الصحيح والفعال، بالأداء الرائع لطلبتنا الاذكياء و اساتذتنا المتنورين، وهذا لا يتأتى إلا "بالتعليم الجيد و الادارة الخلاقة " وفق حوافز العمل المنتج بعيدا عن الهوس الاعلامي الممجوج، عدا عن ذلك، فان التعليم الجامعي الذي لا يصاحبه التزام بالمسئولية الاجتماعية، وأداء ومنتج اقتصادي متطور ، سوف يصبح مجرد مكافحةٍ للأمية لا أكثر..

في حالة السكون أو التراجع، تختفى الحرية الاكاديمية ومعها الراى الاخر ، ويصبح النقد جريمة ، والتعددية تهديد للامن الوطني، ويغدو التصفيق والتهليل علامة فارقة على ثقافة سلبية غير منتجة، ولعل جامعات دول العالم الثالث التى تتربع على "ذيل" التصانيف العالمية خير مثال على ذلك، فهي السر في تراجع النمو العلمي والاقتصادى الذى ادى بتلك الدول الى الضعف و الفوضى ومن ثم الاستكانة "كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ!!..