«الأمر لي».. هكذا قال الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، منذ إغلاقه «الأبواب» امام الرئيس السابق ورفيقه المُؤسِّس لحزب العدالة والتنمية عبدالله غُلّ، ما يعني أنها ليست جديدة «ركلته» الأخيرة لرئيس وزرائه الذي جاء به من المجهول (السياسي بالطبع), كي يضعه على رأس حزب اسلاموي الايديولوجيا والشعارات، وإنْ تخفّى بصيغ ملتبسة, مستفيداً من تجربة «شيخه» الذي تمرد عليه في أسوأ لحظات ضعفه (نور الدين اربكان الأب الروحي للاسلام السياسي في تركيا) وبخاصة بعد ان «طبخ» ورهط الذين خرجوا على طاعة اربكان, صيغة اسلاموية جديدة ذات نزعة اميركية صرفة حملت اسم «الاسلام المعتدل» حتى بدأ تسويقها والرهان عليها اميركيا واوروبياً.
داود اوغلو الاكاديمي الذي سطع نجمه بعد ان وُلِّي وزارة الخارجية في حكومة حزب العدالة والتنمية ذات اللون الواحد في العام 2009، بعد ان حصد الحزب اكثر من نصف مقاعد البرلمان البالغة (550 مقعداً) لم يكن عضواً في الحزب الحاكم وكان مجرد مستشار للرئيس غُلّ «تنازل» عنه الأخير لاردوغان رئيس الوزراء وقتذاك، وتم ترفيعه الى رتبة سفير بعد ان ذاع صيت كتابه الشهير «العمق الاستراتيجي» حيث سطعت فيه فكرته اللامعة (ولكن الخائبة لاحقاً) صفر مشاكل مع الجيران والعالم، ما يعني ان اردوغان «وظّف» الرجل اكثر مما اقتنع به عضواً فاعلاً في حزب يكتسح المقاعد ويواصل نجاحاته وانجازاته على الصُعُدِ كافة، ما اوصل تركيا الى المرتبة السابعة عشرة في الدول ذات الاقتصادات القوية، وأيضاً كي يقطع الطريق على الطامحين او المتربصين به شراً داخل الحزب، الأمر الذي تمت ترجمته بأن قدّم اوغلو طلب انتساب للحزب, ونزل على قائمته الانتخابية في الانتخابات (قبل الأخيرة) عن مدينة قونيا ثم فجأة هبط على رئاسة الحزب في العام 2014 بعد ان بات اردوغان رئيساً للجمهورية، اي أهّله ليكون رئيساً للوزراء خلفاً له، وهو الموقع الذي ظن كثيرون أنه سيكون من نصيب الرئيس عبدالله غُلّ، بعد ان لم يترشح الاخير لولاية ثانية (وكانت حظوظه أكبر وأقوى من حظوظ اردوغان، لكن الأخير خلط الأوراق وأبقى على غُلّ رهين «توقعاته» الى ان عقد مؤتمراً للحزب قبل يوم واحد فقط من انتهاء ولاية غل، كي يحول دونه والمشاركة في مؤتمر الحزب، ما ادى الى تسليم «الراية» لداود اوغلو, الذي ظن ان الامور ستكون سهلة امامه، في ظل نظام برلماني، فإذا باردوغان يُحجّمه ويدفعه الى الخلف، ما زاد من الاعتقاد بأن اوغلو لن يخرج على طوع او أوامر السيد الذي جاء به.
الاضاءة على الصعود السياسي والشخصي «المفاجئ» لداود اوغلو, يمنح المرء الفرصة لتحليل الاطاحة المهينة به التي بادر اليها اردوغان, بعد أن لم يعد «الرجل» قادراً على توفير البضاعة, للرجل القوي الذي يتحكم به المزاج والانفعال ولا يتردد في توجيه الصفقات والاتهامات وحتى الشتائم لكل من يُعارِضه في الداخل كما في الخارج, دون أن يكترث بعواقب الامور, أو يدقق في اكلاف واستحقاقات نزواته التي فاقت كل التوقعات وبخاصة في السقوط السريع للرهانات الغربية على النموذج التركي في ما وصف ذات يوم بـ»الاسلام المعتدل», لأن الرجل اندفع في شكل متهور كي يُمسِك بكل مفاصل السلطة وينكّل بالمعارضين ويستتبع المؤسسة القضائية ويطارد الصحفيين ويصادر وسائل الاعلام حدود اغلاقها كما فعل في الخامس من الشهر الجاري عندما اغلق صحيفة «زمان» التي كان استولى عليها قبل شهرين (5/3) ليضع اكبر مؤسسة صحفية في البلاد وموظفيها أمام المجهول, بكل ما يحمله من إسكات لصوت مُعارِض واكبر صحيفة يومية توزع اكثر من مليون نسخة يومياً كاشتراك.
لم يفعل البروفسور اوغلو شيئاً امام تغوّل رئيسه, الذي ما يزال «دستورياً» مجرد رئيس بروتوكولي ولم يتحول (بعد) النظام البرلماني الذي كرّسه اتاتورك منذ 93 عاماً... الى نظام رئاسي, كما يشتهي ويسعى حثيثاً اردوغان لتكريسه, واستمر رئيس الجمهورية الذي يسمو فوق الاحزاب وغير منتم لأي منها طالما استقر في قصر شنقايا (اردوغان رفض الجلوس في ذلك القصر وصادر المبنى الفاخر والمهيب الذي شُيِّد لمجلس الوزراء فَسَكَنَهُ واطلق عليه... القصر الابيض) وراح يتصرف كأي مستبد في دولة بوليسية, دون أن يجد احداً ينتقده سوى كلمات خجولة (وان كانت قاسية) من قادة احزاب المعارضة الذين يُبدون رخاوة واضحة ازاء مطلب اردوغان تحويل النظام القائم الى نظام رئاسي.
أهو انقلاب «سراي» اذاً؟
ليس ثمة خلاف بين اثنين حول ان اردوغان «رَكَلَ» داود اوغلو واخرجه من «جنته», لكن غير ذلك من تحليلات او سيناريوهات, تبدو ساذجة او تُغرد في غير اتجاه لأن اوغلو نفسه قال في مؤتمره الصحفي الذي «نعى» فيه «منصِبه», أي اعلن انه لن يرشح نفسه في مؤتمر الحزب الطارئ يوم 22 الجاري: «كنت انتظر ان تستمر الفترة لمدة اربع سنوات, لكن عدم حصول ذلك, لم يكن لرغبة مني, بل للضرورات التي ظهرت لاحقاً»..
ليس ثمة ضرورات نشأت لاحقاً سوى ان اردوغان ضاق ذرعاً بالاكاديمي الذي لا يبذل جهداً كافياً لتوفير البضاعة, والتي هي في الاساس تسريع الانتقال الى نظام رئاسي يجعل منه الحاكم الاوحد للديار التركية.
تجربة اردوغان, رغم كل ما يُظْهِره من بطش وسرعة في شطب المستقبل السياسي لمن يُعارِضه, ستكون اسوأ مما يظن البعض, ولن تكون مرحلة ما بعد اردوغان.. بعيدة.
إنها مسألة وقت ليس الا.