نهاية الاقتصاد الرومانسي

هناك حالة من الطمأنينة الداخلية لدى طيف واسع من النخبة الرسمية حيال الأزمة الاقتصادية الراهنة التي باتت بعض مؤشراتها تتجاوز ما شهدته البلاد العام 1989. ولا يعبَّر عن هذه الطمأنينة بشكل مباشر، وإنما علمي، يظهر من خلال مصدرين. الأول، القول إن الانكشاف الاقتصادي قديم وليس ظاهرة جديدة، بل عمره من عمر الدولة التي بدأت بالمساعدات والقروض منذ العام 1921. والثاني، أنه مع ازدياد الانكشاف وتفاقم الأزمة، لا بد أن يأتي الفرج من الخارج؛ وطبعا لدى هذه الطبقة أمثلة جاهزة دوما، ولديها نوافذ أمل لا بد أن يتسلل منها الخير الموعود.
هذه الصيغة التاريخية انتجت نسخة أردنية من الاقتصاد القائم على الأمنيات وعلى إدارة العواطف، أكثر من إدارة المصالح. وعلى الرغم من حجم التحولات الكبيرة التي شهدتها أدوار الفاعلين الأساسيين على صعيد تقديم الدعم والمساعدات للأردن، وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة العربية السعودية، إلا أن الصيغة التي تتفاعل من خلالها غالبية النخب الرسمية، وبالتالي تعكس السلوك المؤسسي، ما تزال هي ذاتها؛ إذ لم تغادر صيغ المجاملات والامتنان، بغض النظر عن الأثمان السياسية والاقتصادية المقابلة. بمعنى أنه لم تنتقل إدارة المساعدات الدولية إلى وقف النزف وتجفيف مصادره، والانتقال إلى الاقتصاد الصلب، وإلى مجال التفاعلات الاقتصادية والسياسية القائمة على تبادل المصالح.
هذه المرة، والتي وصل فيها حجم الانكشاف الاقتصادي حدا غير مسبوق، ووصل حجم الدين العام إلى نحو 93 % من الناتج الوطني الإجمالي، تتفاقم الأمور بالتوازي مع نهاية الاقتصاد الرومانسي التقليدي؛ أي العطايا الاقتصادية شبه المجانية. كما أنها تأتي وسط تحديات استراتيجية من نوع آخر، تجعل البلد عمليا محاصرا من ثلاث جهات: من الشمال حيث الحرب الدائرة في سورية، واحتمالات انتقال الصراع إلى الجنوب السوري نحو الحدود الأردنية التي لم تتوقف حالة الطوارئ فيها منذ أكثر من أربع سنوات، بينما تزداد أوضاع اللاجئين تعقيدا، سواء من هم داخل الحدود الأردنية أو أولئك الذين يتراكمون في مخيمات محاذية للحدود داخل الأراضي السورية. أيضاً، وعلى الجهة الثانية، ما تزال الحدود الشرقية مع العراق مغلقة على الرغم من التصريحات المتفائلة للسفيرة العراقية في عمان قبل أسبوعين، وما تزال هذه الحدود مؤهلة للمزيد من المتاعب الأمنية الاقتصادية. يضاف إلى ذلك الحدود مع إسرائيل، واحتمالات استثمار هذه الأخيرة للأوضاع الراهنة في المنطقة، كما انسداد الأفق السياسي، للإقدام على خطوات أحادية؛ مثل ضم بعض المناطق في الضفة، والتخلي أو الانفصال عن مناطق أخرى، أو القيام بأعمال أحادية تحضّر لها منذ سنوات في القدس المحتلة، ربما وصولا الى انهيار السلطة الوطنية الفلسطينية المتوقع في أي لحظة.
هناك فرصتان على درجة كبيرة من الأهمية في إطار التفاعلات السياسية-الاقتصادية الدولية والإقليمية، تؤهلان الأردن لتغيير دفة إدارة علاقة الداخل بالخارج من المنظور الاقتصادي. الأولى، ما يمكن أن تتيحه قرارات مؤتمر لندن من فرص اقتصادية وتنموية، يمكن أن تساهم في تعويض المملكة عن جزء من أعباء اللجوء والخسائر التي لحقت بها، وبالتالي التقليل من آثار تباطؤ النمو الاقتصادي. فيما تتمثل الفرصة الثانية فيما يمكن أن تأتي به التطورات الأخيرة في العلاقات الأردنية السعودية، واحتمالات نمو الاستثمارات السعودية في الأردن. 
فالخروج من الاقتصاد الرومانسي الانفعالي يتطلب واقعية باردة؛ أي وضع توقعات واقعية بعيدا عن الأمنيات، والانتقال من الإدارة الريعية إلى الإدارة الإنتاجية، إذ لا استدامة من دون علاقات تفاعلية قائمة على تبادل المصالح، ولا مستقبل من دون إنتاج، ولا خلاص من العلل الاقتصادية التاريخية من دون مغادرة منظور المنح والمساعدات.