المسكوت عنه في التعديلات الدستورية



لا أعرف دولة انهارت لأنها عدّلت دستورها أكثر من مرة، طالما أن التعديل يتم وفقاً للإجراءات المرسومة في الدستور. فالدستور البلجيكي -وهو الأصل التاريخي للدستور الأردني- عُدّل منذ دستور دولة بلجيكا الاتحادية للعام 1993، تسعا وعشرين مرة، بمعدل تعديل كل سنتين. وليس صحيحاً أن حصَانة الملك في الدستور الأردني مُستمدة من أنه يمارس صلاحياته بإرادة ملكية مكتوبة يوقع عليها الوزراء؛ فحصانة الملك منصوص عليها في الدستور الأردني بنصٍّ خاصٍّ مُتفرد مفاده أن الملك مَصون من كل تبعة ومسؤولية.
ولا أعتقد أن تعيين الملك لقيادات مؤسسات الحكم؛ من قائد الجيش والمخابرات والقضاء والمحكمة الدستورية، مباشرة من دون تدخل الحكومة، سيمس بقاعدة تحصين الذات الملكية من المُساءلة القانونية، ذلك أن تلك الصلاحية مارسها الملك، ومنذ الخمسينيات، "منفرداً"، وأن توقيع رئيس الوزراء -مع الاحترام- في هذه القضايا كان شكلياً؛ والحصانة الملكية الدستورية لا تنسحب على من يعيّنهم الملك مباشرة، فمدير الدرك، مثلاً، بعد تعيينه مباشرة من الملك سيَظل خاضعاً للقانون العام ولقانون مديريته الذي يحدد مرجعيته الإدارية وطريقة مساءلته.
لكن من جانب آخر، لا نحتاج إلى التنظير في أن توسيع الصلاحيات المُتفردة للملك لا تنسجم مع روح الدستور للعام 1952، والذي نص صراحة على ملكية دستورية، الشعب فيها مصدر السلطات، وبيّن كذلك صلاحيات الملك وشكل ممارستها، لضمان دور الملك الأساسي في خلق التوازن بين السلطات الثلاث.
ومزدوجو الجنسية من الأردنيين ليسوا جواسيس، ولكنهم أيضاً ليسوا نبعاً للخبرات "المقطوع شكلها"، ويمكن للتعديل المُقترح بخصوص تعيين مزدوجي الجنسية في مناصب قيادية أن يشترط كون الشخص متمتعا بالجنسية الأردنية منذ ثلاثين سنة مثلا، وأن يكون مُقيماً في المملكة.
لكن طريقة عرض التعديلات الدستورية الأخيرة التي تتعلق بقضايا لم يكن فيها مُنازعة وتدخّل من الحكومات السابقة، إضافة إلى حالة الاستعجال في إرسالها للبرلمان، والتي أوحت أن إقرار تلك التعديلات سيكون آخر مهام البرلمان الحالي، يوحي بأن هناك مسكوتاً عنه في طرح تلك التعديلات، وأن هذا المسكوت عنه قد يكون التالي:
- إن مؤسسة الحكم في خِضمِ استقراءٍ مستمرٍ لشكل الأردن السياسي في مرحلة ما بعد قانون "الصوت الواحد". وإن ما بدا مفاجئاً للجميع بطرح التعديلات الدستورية، إنما هو نتاج عملية مستمرة ومتواصلة من المشاورات على المستوى الاستراتيجي، بين خيار الذهاب للملكية الدستورية بأقصى طاقتها، وبين صوتٍ محافظ يرغب في وضع ضوابط لضمان "تدرج" هذا الذهاب مع نمو العملية الديمقراطية على نحوٍ يضمن استمرار الدولة والحكم والأمن.
- إن مشروع الذهاب للحكومة البرلمانية بشكلها الدستوري؛ حيث تُشكل الأغلبية البرلمانية الحكومة -والأمل أن تكون تلك الأغلبية حزبية برامجية- تعتريه خشية في عقل الدولة الاستراتيجي، ومفاصل الدولة الأمنية، من تعريض المؤسسات الأمنية والقضائية للتجاذبات الحزبية والسياسية، التي من الممكن أن تتشكل في البرلمان في مرحلة ما بعد قانون "الصوت الواحد".
- إن تعديل قانون الانتخاب والتعديلات الدستورية، قد يُفهمان ضمن برنامج فقه التدرج في الديمقراطية الذي يُطرح على المستوى الرسمي، باعتباره ضمانة لأمن واستمرار الأردن، خاصة أن ثقة الشعب الآن بالبرلمان الحالي والمقبل موضع تساؤل وتدقيق، وأن مؤسسة الحكم والمؤسسة الأمنية والجيش تحتل عند جميع أفراد الشعب مكانة عالية.
الاستعجال في إقرار التعديلات الدستورية قد يُفهم منه أنه جهد يهدف إلى خلق حالة توافق بين أطراف التفكير الاستراتيجي في عملية للذهاب الواعي للملكية الدستورية "كاملةالدسم"، فإن كان هذا التحليل قريباً من الواقع جزئياً أو كلياً، أقول: لماذا لا يُطرح مشروع أو خطة التدرج بما تتضمنه من أي تعديلات مؤقتة للدستور، والتأكيد على أن مثل هذه التعديلات ليست توجها دستورياً وسياسياً جديداً، وأن يُشارك الشعب في مثل هكذا خطة أو مشروع؟ فإن كان المسكوت عنه أن هناك توجساً من نتائج قانون الانتخاب الجديد، وأن الثقة بالعملية الانتخابية ليست في أحسن حالاتها، فإنه لا يجوز أن ينصرف ذلك الى عدم الثقة بالشعب والمجتمع المدني، والتوجه إلى عدم مشاركتهما في أي خطة للوصول إلى الحكومة البرلمانية التي هي روح الدستور ومستقبل الأردن.

FacebookTwitterطباعةZoom INZoom OUTحفظComment