الخنفساء والقرحة ...!

يروي أحدهم، تأخرت كعادتي في سهرة عنوانها الغيبة والاستهزاء بالآخرين لم يسلم فيها أحد حتى أصحابي، حتى أنني سخرت من أعمى رأيته يتسول في السوق أسقطته أرضاً وأنا أضحك عليه.
عدت بعدها إلى البيت لأجد زوجتي تنتظرني متعبة وتشعر بقرب ولادتها فقد كانت في شهرها التاسع، ذهبنا إلى المستشفى وأدخلوها غرفة الولادة مباشرة وإستغرقت وقتاً طويلاً، إتصلوا بي بعد ساعة لابلاغي بقدوم "سالم"، أسرعت إلى المستشفى فطلب مني مراجعة الطبيبة التي أشرفت على الولادة أولاً، فذهبت إليها لتخبرني أن الولد جاء بتشوه في العينين ويبدوا أنه فاقد للبصر، صدمني الخبر وخنقت دموعي وأنا أتذكر ذلك المتسول الأعمى الذي دفعته في السوق وأضحكت عليه الناس، لكن زوجتي لم تحزن فقد كانت مؤمنة بقضاء الله، وطالما نصحتني أن أكف عن الاستهزاء بالناس وتحقيرهم، لم أهتم بسالم فقد إعتبرته غير موجود في المنزل، وحين يشتد بكاؤه كنت أهرب إلى الصالة لأنام فيها، بينما زوجتي تهتم به وتحبه كثيراً، أما أنا فلم أكن أكرهه ولم أكن أحبه، كبر سالم وبدأ يحبو، وبدأ يحاول المشي لنكتشف أنه أعرج، أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر، وأنجبت زوجتي بعده عمر وخالداً، مرت السنوات وكبر سالم وكبر أخواه، وكنت لا أحب الجلوس في البيت فدائماً مع أصحابي، ومع ذلك لم تيأس زوجتي من إصلاحي، وكانت تدعو لي دائماً بالهداية وكانت تحزن إذا رأت إهمالي لسالم وإهتمامي بإخوته، ومرت الأيام ولم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في إحدى مدارس ذوي الاحتياجات الخاصة، فلم أكن أشعر بمرور السنوات، وذات جمعة، إستيقظت باكراً لأجهز نفسي للخروج لوليمة دعيت إليها، مررت بصالة المنزل لأرى سالم يبكي بحرقة إستوقفتني، وكانت أول مرة منذ عشر سنوات أنتبه إليه فيها، إقتربت منه فتوقف عن البكاء حين سمع صوتي، ولما شعر بقربي بدأ يتحسس ما حوله بيديه الصغيرتين، فاكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني، لحقته إلى غرفته لأعرف أن سبب بكاءه تأخر أخوه عمر عن أخذه للصلاة في المسجد، أخذت أنظر إلى دموعه في عينيه المكفوفتين لأنسى كل أصحاب السوء لحظتها وأنسى الوليمة، وقلت: لا تحزن هل تعلم من سيذهب بك اليوم؟ قال: أكيد عمر، لكنه يتأخر دائماً، قلت: لا بل أنا، دهش سالم ولم يصدق، وإعتقد أني أسخر منه فبكى مجدداً، والحقيقة أنني لم أكن أذكر آخر مرة صليت فيها، لكنها المرة الأولى التي شعرت فيها بالندم على ما فرطت، بعد إنتهاء الصلاة طلب مني مصحفاً وإستغربت كيف سيقرأ وهو أعمى؟ حاولت تجاهل طلبه لكني ناولته مصحفاً خوفاً على مشاعره، لأراه يفتحه ويضعه أمامه ويقرأ منه غيباً وكم خجلت من نفسي عندها، بدأت أقلده وأدعو الله أن يغفر لي ويهديني، وبكيت كالأطفال وحاولت كتم بكائي، ولم أشعر إلا بيد صغيرة تتلمس وجهي تمسح عني دموعي، إنه سالم، ضممته إلى صدري، وأنا أقول في نفسي لست أنت الأعمى بل أنا الأعمى، ومنذ تلك اللحظة إنقلبت حياتي رأساً على عقب، ورطبت لساني بالذكر لعل الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من الناس، وإختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي، وما عادت الابتسامة تفارق وجه إبني سالم، وذات يوم سافرت لإحدى المناطق البعيدة وتغيبت عن البيت لأشهر، كنت أتصل كلما سنحت لي الفرصة بعائلتي، وإشتقت لسماع صوت سالم فهو الوحيد الذي لم يحدثني منذ سافرت، إما أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة إتصالي، لأعود إلى المنزل بعدها ويكون أول من إستقبلني إبني خالد ذو السنوات الأربعة وهو يصرخ: بابا، بابا، إنقبض صدري عندها، أقبلت زوجتي وكان وجهها متغيراً، سألتها: أين سالم ؟ خفضت رأسها ولم تجب، ولم أسمع حينها سوى صوت إبني خالد يقول ببراءة الطفولة: بابا، ثالم لاح الجنة، عند الله، لم تحتمل زوجتي الموقف فانهارت باكية، وعرفت بعدها أن سالم أصابته حمى فأخذته زوجتي إلى المستشفى لكن روحه فارقت جسده، روحه التي جعلها الله سبب هداية والده قبل أن ترحل عن هذه الدنيا بصاحبها سالماً !
ولعل هذه السطور تكون سبباً لكل من يسخر من غيره ويتفنن في إحتقارهم لمراجعة نفسه، فليت هؤلاء يتذكرون مع قصة سالم ووالده تلك الخنفساء التي روي أن أحدهم سخر منها قائلاً: ما أراد الله بخلق هذه لا صورة حسنة و لا رائحة طيبة، لتصيبه قرحة عجز عنها الأطباء إلى أن جاء أحدهم بخنفساء أحرقها لتصير رماداً ثم وضعها على مكان القرحة ليشفى الرجل باذن الله، وعندها قال الرجل: أراد الله أن يعلمني أنه لولا وجود تلك الخنفساء التي سخرت منها لبقيت أتقطع وسط أوجاع القرحة ما حييت!