«دييغو وفريدا» للوكليزيو: زواج فيل من يمامة

في العام 1967، عُيّن الكاتب الفرنسي – الذي سيفوز لاحقاً بجائزة نوبل للآداب – ج. Hم. جي لوكليزيو، باحثاً في معهد أميركا اللاتينية. وهو منذ خوضه تلك التجربة التي سيعتبرها دائماً حضارية، أكثر منها علمية، سيولع بتلك المنطقة من العالم، لا سيما بالمكسيك التي وضع عنها من الكتب عدداً يفوق ما وضعه عن بلده، فرنسا، بين روايات ودراسات ونصوص وجدانية وكتب تاريخية. لوكليزيو الذي اهتم دائماً بأفريقيا، سيضيف الى هذه الأخيرة، اهتمامه بالمكسيك، وبكل ما يتعلق بها. ومن هنا، أتى كتابه «دييغو وفريدا» في السياق الطبيعي لهذا الاهتمام. كما أنه أتى كجزء من اهتمامه بالفنون والحضارات المكسيكية القديمة، حتى وإن كنا نعرف أن شخصيتي الكتاب، مرتبطتان بالفن الحديث بقدر ارتباطهما بفنون تلك الحضارة العريقة. وذلك لأن دييغو في العنوان هو طبعاً دييغو ريفيرا، أما فريدا فهي فريدا كاهلو، وهما اللذان قيل عنهما دائماً أنهما أشهر مكسيكيين في العالم، وربما فقط من بعد زاباتا... والحقيقة أن وضع لوكليزيو هذا الكتاب إنما جاء تتويجاً لجهود كبيرة بذلها في المكسيك وحولها، هو الذي كان يعرف أن كتابته عن الرسامَيْن الشيوعيين، لم تكن بالأمر الجديد، إذ صدر من قبله عشرات الكتب عن كل منهما على حدة، وعنهما معاً، وصولاً طبعاً الى الفيلم الذي أنتجته وقامت بالدور الأول فيه الممثلة المكسيكية من أصل لبناني سلمى حايك، في عنوان «فريدا» بعدما حلمت طويلاً بأن تلعب الدور على الشاشة.

 

 

> والحال أن المرء إن تذكّر فيلم «فريدا» واسترجع في ذاكرته حكاية هذه الأخيرة مع ريفيرا، سيتذكر أن ثمة دائماً في تاريخ الفن الحديث، حكايتين: حكاية فريدا نفسها، وحكاية ريفيرا. وعلى رغم أن حكايتهما معاً باتت معروفة منذ زمن بعيد، نعرف أن الحكايتين قلما تلتقيان، حتى وإن كانت السماء جمعتهما مع فارق ثلاث سنوات، كانت هي الفارقة بين رحيل فريدا متأثرة بكسورها وأمراضها العديدة وانكسار خاطرها، من العالم والفن كما من دييغو الذي أحبته دائماً الى حد الوله، لكنه هو لم يبادلها ذلك الحب نفسه، ورحيل ريفيرا الذي جاء في وقت كانت تبدو صحته جيدة، وغرامياته النسائية بلا نهاية. كان دييغو زير نساء من الدرجة الأولى، أما هي، فعلى رغم ما أشيع دائماً عن علاقتها بقائد الثورة البوليشفية تروتسكي، وحتى عن علاقتها بأندريه بريتون وصولاً الى افتتانها بهنري فورد، صانع السيارات الأميركي الشهير، كانت دائماً ما تبدي من الوفاء لزوجها وحبيبها، بأضعاف أضعاف ما يبديه هو.

 

 

> ومع هذا، كان فارق السن كبيراً بينهما. كان يكبرها كثيراً. وحين ارتبطت به بتلك العلاقة التي أفضت الى زواجهما، كانت سنه تقرب من سن أبيها الذي – وكما يروي لوكليزيو في كتابه – علّق حين فوتح بخبر زواج الرسام الشهير بابنته بقوله: «إنه أشبه بزواج فيل من يمامة». ولم يكن هذا التعليق بعيداً من الصحة. وكتاب «دييغو وفريدا» هو تحديداً عن ذلك الثنائي الذي كان شديد الغرابة في عالم الفن، لكن كذلك في عالم السياسة والثورة والحب أيضاً، ولئن كان الكاتب الفرنسي قد أعلن حين شرع في صياغة هذا العمل، أنه إنما يريد أن يكتب «سيرة مزدوجة»، فإن ما جاء في نهاية الأمر على قلمه، كان أشبه برواية حب غريب من نوعه. ولنقل رواية تتحدث عما يشبه الحب من طرف واحد. ذلك أن لوكليزيو لم يحاول في كتابه، وعلى رغم تعاطفه الفني والسياسي مع دييغو ريفيرا، أن يخفي التعسف الذي كان به رسام الجداريات المكسيكي الكبير، يعامل فريدا. بل إن دييغو يبدو هنا، وفي بعض الصفحات، أشبه بذلك الوحش الضاري الذي لم يكن ليتوانى عن خيانة فريدا، أمام عينيها أحياناً، من دون أن يأبه لمشاعرها. بل، أكثر من هذا، في وسع المرء اليوم، إذ يشاهد مجمل لوحات كاهلو، - لا سيما منها اللوحات التي تصوّر فيها العديد من مراحل حياتها، قبل الحادثة التي أقعدتها، بخاصة بعد الحادثة، حيث نراها بالأربطة والضمادات، كما نراها في بعض اللوحات وكأنها تسبح في عالم من الخيال الغرائبي -، أن يلاحظ فوراً كيف أن دييغو، وغالباً في حجم طفل صغير تبدو هي وكأنها أمه، يحتل مكانة أساسية في تلك اللوحات. ففي هذه اللوحات، يبدو دييغو كأنه كان كل حياة تلك المرأة المدهشة ومبرر وجودها وموضوع فنها. أما هي – وهذا أمر يفرد لوكليزيو صفحات عديدة لتحليله في كتابه متوقفاً عنده مراراً وتكراراً – فغائبة عن لوحاته. بالكاد يلمح المرء لها وجوداً في عالمه. ومع هذا، ثمة عشرات البورتريهات التي رسمها ريفيرا لعشرات النساء الجميلات التي تقول لنا الحكاية – وهو ما يؤكده لوكليزيو بدوره – أن معظمهن كنّ في مرحلة أو أخرى عشيقات له مع أن بعضهن كن زوجات أصدقائه!

 

 

> غير أن هذا الجانب ليس كل ما في كتاب لوكليزيو. بل هناك الجانبان الآخران المهمان في حياة فريدا كاهلو ودييغو ريفيرا: السياسة والثورة من ناحية، والفن من ناحية أخرى. وارتباط الجانبين من ناحية ثالثة لا يقل أهمية. فنحن نعرف أن فريدا كاهلو كانت منذ صباها مناضلة شيوعية صلبة. وهي لئن كانت قد تعرفت في صباها إلى دييغو ريفيرا وأعجبت به، فما هذا إلا لأنه كان واحداً من عمالقة الفن في المكسيك. كان رسام الثورة والنضال الشعبي الأول في بلد كانت الثورة تشكل جزءاً من تقاليده. صحيح أن فريدا، حين مارست فن الرسم بدورها، وتحت إشراف دييغو، لم تخض رسم الجداريات الذي كان في ذلك الحين تخصصاً مكسيكياً كبيراً، وكان ريفيرا واحداً من كبار الأساتذة فيه، بل آثرت رسم اللوحات الصغيرة. كانت تلك حدودها، لا سيما بعد أن أصيبت بذلك الحادث الذي كسّر عظامها وشلّها عن الحركة. غير أن ذاتية رسومها وغرائبية عوالم تلك الرسوم لم تكونا بعيدتين من اختياراتها السياسية حتى ولئن كانت ستُعرف بشيء من العداء لستالين تلى تعرّفها إلى تروتسكي لدى وصول هذا الأخير الى المكسيك واغتياله من جانب رجال ستالين هناك. ويبدو أن فريدا كانت تعرف شيئاً أو أشياء عن ذلك الاغتيال، بل ترى فيه بعض أصابع ريفيرا وزميله ورفيقه سكييروس. وفي المقابل، كان ريفيرا، كما يبدو، يفضّل خط ستالين على خط تروتسكي، من دون أن يمنعه هذا من الاختلاط بكبار الرأسماليين في المكسيك كما في الولايات المتحدة. ومن المعروف أن هذا الاختلاط هو الذي مكّن رسام الثورة من أن يقنع المتموّلين في بلاده بالإنفاق على الجداريات الثورية الكبرى – والرائعة – التي ملأ بها مؤسسات الوطن ومعاهده. كما أن اختلاط ريفيرا بكبار الرأسماليين الأميركيين الشماليين، جعله يحقق لحسابهم عدداً من المشاريع الفنية، ومن أشهرها تلك الجدارية الكبرى حول الإنسانية، التي أوصاه عليها الملياردير روكفلر كواجهة لمركزه الثقافي الشهير، وكانت النتيجة أن دُمّرت أجزاء من اللوحة ونقلت أجزاء أخرى منها، بناء على طلب روكفلر الذي، مع هذا، دفع كلفتها صاغراً. أما سبب رفضه لها، فهو أن ريفيرا أصرّ على أن يحشر في اللوحة بورتريهات للينين وستالين، في وقت كانت أميركا تعتبر هؤلاء الحمر، من أسوأ أعدائها!

 

 

> هذه العناصر الحياتية المزدوجة كلها، تطالع القارئ في رواية «دييغو وفريدا»، ونقول رواية مع أننا، أصلاً، في صدد كتاب في السيرة المزدوجة، لأن أسلوب لوكليزيو المشوّق وإصراره على روائية بنية العمل، جعلا من هذا النص التأريخي، سرداً في غاية الجمال، يتسلل الى داخل سيكولوجيا الشخصيات وعلاقاتها في شكل أخاذ... إنما في شكل غير محايد، حيث سرعان ما يلحظ القارئ أنه، إذا كان الكاتب يتوقف مطولاً عند إبداع دييغو ريفيرا مقدّراً قوة هذا الإبداع مبرّراً به أحياناً، ضعفه الإنساني ونزقه، فإنه في المقابل يتعاطف، من دون قيد أو شرط، مع شخصية فريدا، كإنسانة فريدة من نوعها، كان من قدرها أن تحب، وبشغف، رجلاً لم يكن هو في حاجة إليها فاعتبرها عبئاً على حياته.