فراس أحمد سلامه، وآل عمان، و«المستحيلات الثلاثة»


تتحدّث العرب عن مستحيلات ثلاثة، هي”: الغول والعنقاء والخلّ الوفيّ”، فَمَن مِنّا لم يَخَف الغول الذي كانت الجدّات ينسججن حوله قصص الرعب، استدراراً للنوم؟ وَمَن منّا لم يبحث عن عنقاء عربية تحترق ثمّ تخرج من الرماد حيّة قوية تطير وتُرزق؟ وهل هناك من عربي لم يخنه أصدقاؤه وخلاّنه؟

مساء الغد، الأربعاء، ستحتفل عمّان بهذه المستحيلات الثلاثة، حضوراً وغياباً، فكتاب صديقنا أحمد سلامة الذي حمل بين ضفّتيه "غول” الإحتلال الإسرائيلي، و”العنقاء” التي تتكرّس فيها:”يُخرج الحيّ من الميّت”، و”الخلّ الوفيّ” الذي مثّله ابنٌ لم يكن تجاوز العشرين حينها إلاّ قليلاً، اسمه فراس، سيكون هو العنوان العمّاني بامتياز.
"عمّان”، عنوان عبقري، يَشي بعبقرية مدينة عربية، لم تطاها قدم "آل إسرائيل” في عزّ عهدهم العتيق، ولهذا ففي نصّهم التوراتي غير المحكم التنزيل: "ملعونة ربّة عمون”، وأمّا ”آل عمّان”، فعنوان عبقري لكتاب يجمع بعض تفاصيل حياة كاتب من تلك المدينة، جاءها من قهر "غول آل إسرائيل”، وتغوّلهم، فوجد فيها عنقاءها، وخلّف فيها خلّه الوفي، ابنه الحبيب فراس.
أحمد سلامه، صاحب الكتاب، ابن "بدّيا”، القرية الفلسطينية التي لم ينلها الاحتلال في العام ١٩٤٨، مع أنّها كانت في عزّ مخططاته، لأنّ الساحل المتوسطي الشرقي يبدو تحتها كظاهر اليد أمام العين، ولكنّه نالها في العام ١٩٦٧، وما بين هذين العامين اللعينين، كان ميلاده، ليسمع أحاديث الهروب أولاً، وليشهد تفاصيل الخروج ثانياً، وليُعلن مع أوّل وجود له في عمّان: هذه مدينتي التي لن تتزحزح عن مكانها، فهي بشارة العودة، و”العنقاء” التي غابت، وعادت، وتبدّلت أسماؤها، وتغيّرت، ولكنّها ظلّت عصيّة على احتلال "آل إسرائيل”، وستظلّ كذلك إلى أبد الآبدين، إن شاء الله.

وأمّا "الخلّ الوفي”، فاسمه فراس، الابن والأخ والصديق لصاحب الكتاب أحمد سلامه، الذي أتى من صُلبه، وولدته زوجته مَها، وفي ميعاد محكوم كبعض القضاء وكثير القدر، يُشهر النصّ، كالسيف الدمشقي البتّار، مُعلنا عرفاناً تاريخياً من الأب لابنه على استعارته ما كان منه، فالنُطفة أصلاً كانت من أحمد، والكِلية جاءت من فراس، والحياة تُجدّد نفسها، من نفسها، حيناً بعد حين.

وفي فجر يوم استعنت على الكآبة، بالكتابة، عنهما، ففراس، وأحمد، سلامه، كانا موجودين في غرفة عمليات، على مائدتين متقاربتين، يخضعان لعمليتين جراحيتين، تنتقل فيهما كِلية الابن إلى الأب، وقد خانت كِليتا أحمدَ أحمد، وسارع الابن العظيم للتبرّع بجسده كلّه لأبيه، لو طلب الطبُّ منه ذلك، ولكنّ الأمر تعلّق بجزء مُقتطع من أصول جسده، فكان فراس لها شجاعاً مقداماً، على الرغم من تحفظات الأب، وتلك قصّة ستقرأونها في الكتاب، ولا أظنّها تتكرّر كثيراً في حياة الناس.
وفي لحظة ولادة فراس سلامه كنّا معاً، أحمد وأنا، ولأنّ الأبّ مُغرم باللغة العربية، فقد أعطاني ألف سبب وسبب لاختيار الاسم، ولكنّني أظنّ أنّه سمّاه على اسم العجلوني فراس، لأنّ الشهيد الحبيب راح إلى بارئه حين كان يدافع عن أعزّ ما قدّمت الدنيا، وما قدّم التاريخ: أرض فلسطين، فأحمد يمتلك من فلسطين ما يزيد على امتلاكه من اللغة، وهذا الأخير أكثر من كثير.

وفي تلك اللحظات، من كتابة قتل الكآبة، عُدت إلى جرش، حيث مطعم، ومغارة في سفح الرومان، ومجموعة صديقات وأصدقاء كان أحمد يتلاعب بهم في ما اخترعه من الهوّة، فيسألهم تسعة وتسعين سؤالاً، كان الأهمّ منها: أيّ عضو في جسدك ستظنّ أنّه سيخذلك أوّلاً؟ وكانت الإجابات تختلف، وحين جاء دوري للأسئلة، قُلت: وما هو ذلك العضو عندك، فلم يستطع الإجابة.

لعلّ الأمر، حينها، تعلّق بصيغة السؤال، فالكليتان اثنان، وسؤالي كان عن واحد، ولعلّه تعلّق بأنّ أحمد لم يظنّ في لحظة أنّ الكليتين مسألة تستأهل أن يتوقّف عندهما المرء كثيراً، فكنّا ما زلنا في نهايات العشرينيات، ولم يكن لا أحمد، ولا أنا، نعرف أنّ الدنيا ذاهبة إلى ما ستذهب إليه من فصول، وفصول، فقد كنّا أكبر من فراس في عمره الآن قليلاً.

أحمد يختار اليوم، من دونه من الأيام، أن يكون موعدا لإشهار كتاب عمره، لأنّه عيد ميلاده الجديد، من جسد ابنه فراس، الذي استعاد فيه جزءاً من نُطفته الثالثة، ويبدو أنّ الأمر يتعلق بشيء يتعلق باثنين يتشاركان الجسد، وليس مجرّد الروح.

ويبقى أنّ "آل عمّان”، قد يبدو مجرّد كتاب، في عالم لم تعد القراءة تعني له الكثير، ولكنّه حياة يحشد فيها الكاتب الأماكن والأسماء، بادئاً من "بدّيا” الفلسطينية الآسرة، ومستقراً في عمّان الباقية، وليس انتهاء في البحرين، ولعلّه قَصد العودة إلى البدء، حيث المستحيلات العربية، فـ”الغول الاسرائيلي”، مجرّد وهم من حديث الجدّات، فـ"العنقاء العمّانية” المتحقّقة، وصولاً إلى "الخلّ الوفي”، الذي تحقق بابن، اسمه فراس، ولا أظنّ أنّ هناك وفاء يمكنه أن يطاله.