قبل أن تتحول عمان إلى مدينة بلا تاريخ !

يكاد يكون امراً طبيعياً أن ترى كثيراً من مدن العالم محافظةً على مبانيها القديمة نظراً لقيمتها التاريخية والثقافية لكن ذلك لم يتحقق تلقائيا بل من خلال قوانين تحرم هدمها وتسمح فقط بترميم واجهاتها وصيانتها وابقائها على شكلها الاصلي مع جواز التصرف بالتقسيمات الداخلية وتحسينها حسب الحاجة، وربما كانت المدن الاوروبية هي التي تحظى اكثر من سواها بالقسط الأوفر من هذه الظاهرة الحضارية، ولقد لفت انتباهي في باريس تحديداً ما زاد إعجابي باهتمامها التوثيقي لتراثها المعماري أن بلديتها توجب وضع لوحة معدنية صغيرة على باب كل عمارة تحمل تاريخ إنشائها واسم مهندسها وليس كما الحال عندنا حيث نرى لافتة ضخمة منفرة مثبتة على أعلى نقطة في العمارة كاعلان عن اسم مالكها أو شركته !

لعل البعض يتذكر أني خضت منذ سبعينيات القرن الماضي معركة حامية في مواجهة تعديل قانون المالكين والمستأجرين لما يحمله من مخاطر اجتماعية واقتصادية بينها ما يتهدد التراث وعلى سبيل المثال كتبت في هذا الصدد (في الرأي 27 /3 / 1982) معترضاً على منح المالك حق هدم المأجور كلما مر عدد معين من السنين بحجة تحديث وتجديد القديم (!) وهو الهدف البريء المعلن أما غير المعلن فهو طرد ساكني العقار وإنشاء بناء آخر لجني أجر أعلى من مستأجرين جدد واشباع الجشع بمزيد من الربح !
وقلت يومها: سوف ينتج عن ذلك حتما قصف عمر مدينتنا كل ربع قرن مثلاً حين يستحق موعد هدم العديد من بيوتنا ومبانينا وتصبح عمان المستقبل بلا ماضٍ، بلا تراث عمراني وبلا تاريخ، في حين تزهو مدن العالم بابنيتها العتيقة العريقة بكامل أبهتها وجمالها لمئات السنين !
ويبدو أن الجهات المسؤولة عندنا قد تنبهت في وقت لاحق لخطورة ذلك التهاون (القانوني) المنافي للقيم الأساسية لأي مدينة متحضرة فسنت نظاماً للمحافظة على التراث العمراني في المدن يتضمن تشكيل لجنة لتحديد الابنية التي تم انشاؤها قبل تاريخ معين وتحمل سمات وصفات مميزة لكي يصدر قرار بمنع التصرف فيها بالهدم أو التغيير، ولقد قامت اللجنة بوظيفتها في مناطق أمانة عمان وادرجت في قائمتها عدداً كبيراً من المباني في جبل اللويبدة وجبل عمان وسواها فانقذت بذلك من الهدم عدداً لا بأس به من البيوت القديمة ذات الطابع التاريخي او التي تعتبر مخزناً لذكريات العمّانيين ومن المتوقع أن تشكل جزءا من ثقافة الاجيال القادمة وهو اضعف الايمان في مدينة لم يبلغ عمرها المائة عام، الثلث الاول منه فقير بدائي من الناحية العمرانية !
لكن السنوات الاخيرة حملت لنا ظاهرة سيئة أخرى بدأت تتفشى في احيائنا السكنية وتقضي على بيوتنا المستقلة ذات الحدائق الصغيرة التي لم يمض عهد طويل على بنائها ومازالت جديدة بالمفهوم العصري للعمارة، وتتمثل هذه الظاهرة بقيام شركات التعهدات الكبيرة بشرائها وهدمها بلا رحمة لأنشاء العمارات ذات الطوابق المسموح بها أو التحايل على قواعد التنظيم والفوز برخصة بناء طوابق عديدة اكثر ! وتكون النتيجة ان تفقد تلك الاحياء طابعها الهادئ وتزدحم بمبان متلاصقة مكتظة بالسكان، لا تنقي البيئة فيها خضرة أو شجرا ، وتحتقن شوارعها باعداد كبيرة من السيارات فتختنق بدخان عوادمها وتصطخب بضجيجها !
وبعد.. لا أدري اين يتوقف مسلسل الهدم في عمان وانا أعرف مدى ما تتحمله امانة عمان من ضغوط لكي ترخي قبضتها على القانون الذي يعطيها صلاحية عدم السماح بالهدم حفاظأ على ما يفترض انه سيصبح في المستقبل جزءًا من التراث، وإلا فكما كتبت قبل خمسة وثلاثين عاماً، سوف تتحول عاصمتنا الحبيبة، واقعاً لا خيالا سوداوياً، الى مدينة بلا ماضٍ.. بلا تاريخ !