في واقعنا

لتحقيق طروحات الإسلام السياسي، ودعوات بعض فصائله إلى إقامة سلطة مركزية (الخلافة) تتبع لها سائر الإمارات، شرقاً وغرباً (كان عمر بكري يسيّر تظاهرات في لندن ترفع شعار الخلافة الآن وهنا)، كان لا بد لهذه الأحزاب من تدمير الدول، حيث استطاعت، بحجة أنها لا تقيم شرع الله، ويديرها «كفار وملحدون ومرتدون»، لا بد من التخلص منهم ومن كل المتعاونين معهم. قائمة المتعاونين هؤلاء لا تقتصر على الرؤساء والوزراء، بل تطاول الموظفين والمؤسسات المدنية والعسكرية والمحاكم والمدارس ودور العبادة التي لا تأتمر بأمر «الوالي»، وإعادة «بناء» كل شيء من الصفر، واعتماد برامج تعليمية تخلو من «الفسق»، أي التعليم الحديث، بما فيه الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفن والرسم، والتاريخ، خصوصاً التاريخ.

في معنى آخر، لا تعترف حركات الإسلام السياسي بالتطور الاجتماعي الذي يفرز، بالضرورة، تطوراً في أساليب الحكم وإدارة الدول، وتغييراً في المناهج المدرسية والتعليمية، وفي النظرة إلى الإنسان باعتباره مواطناً له حقوق وعليه واجبات، وابتداع قوانين جديدة تتماشى مع هذا التطور. لذا، نجدها تلجأ فور تسلمها سلطة ما إلى تربية الناس، كل الناس بـ «إعادتهم إلى النهج القويم»، أي أسلمتهم من جديد. سلوك «داعش» في المناطق الخاضعة لسلطته خير مثل على ذلك. في الموصل غيَّر التنظيم كل مناهج الدراسة. وأمر سكانها، بعدما طرد المسيحيين، بتبديل عاداتهم وأساليب حياتهم، خصوصاً في ما يتعلق بالمرأة ومشاركتها في الحياة العامة. أو في الإدارات. وفرض على الرجال لباساً معيناً، يزعم أنه اللباس الشرعي. من يخالف فدونه حد السيف من دون محاكمة ولا قضاة ولا محامين. والأمر ذاته يسري على الرقة، إذ إنها العاصمة الثانية التي تحظى بـ «شرف» الانتماء إلى «خلافة» أبو بكر البغدادي.

أما الأكثر اعتدالاً من هذه الأحزاب فيلجأ فور وصوله إلى السلطة، في البلدان التي ترسخت فيها الدولة، إلى تغيير القضاء والقوانين وقادة الجيش والشرطة وتدجين الصحافة. هذا ما حصل في مصر في عهد «الإخواني» محمد مرسي الذي كان يشتكي كثيراً من الدولة العميقة، أي من الإدارات التي تسيّر شؤون المواطنين بناء على القوانين السارية التي يسعى إلى تغييرها، لا تطويرها لتصبح أكثر عصرية. وهذا ما تشهده تركيا في عهد أردوغان الذي استطاع أن يغير قادة الجيش بحجة تدبيرهم مؤامرة عليه، وتعيين قادة الشرطة الأكثر ولاء له. من دون أن ننسى «تأميمه» أهم صحيفة معارضة وسجن عشرات الصحافيين بتهمة التحريض على الإرهاب، وسعيه الحثيث لتحويل نظام الحكم إلى رئاسي كي ينفرد في اتخاذ القرارات، ولا ننسى أيضاً خوضه الحروب بالوكالة إلى جانب المنظمات التي يعتبرها العالم إرهابية.

ليس أفضل من هذا «التطور» بالنسبة إلى الدول الأوروبية وأميركا، وإسرائيل بطبيعة الحال. فهي ليست مضطرة لخوض الحروب لتعميم الفوضى وإلغاء الدول والسيطرة عليها فما أفرزته المجتمعات كفيل بذلك، وما عليها إلا أن تستغل هذا الواقع لتأجيج «الثورات» المشتعلة في كل مكان، فلجأت في بداية «الربيع» إلى دعم «الإخوان» وحركات ومنظمات لا تؤمن بالحدود، ساعدت بعضها واحتضنت أخرى، وسلّحت جماعات ودربتها، كما دربت نخباً على ممارسة الديموقراطية، ودفعت بها إلى الواجهة كي تكون بديلاً للديكتاتوريات في دول لم تعد موجودة أصلاً. وما لبثت أن نحّت هذه النخب جانباً فعمّها الظلام والظلامية لتبحث مع المسيطرين على الأرض عن مخرج. ولا مخرج إلا بالتقسيم وتكريس أمر واقع، وليكن لكل جهة إمارتها في دولة «اتحادية» ليس فيها من الاتحاد سوى الاسم، مرجعيتها عسكريون أميركيون بصفة خبراء، وعاصمتها واشنطن. أليس هذا ما يحصل في العراق، ويخطط لنقله إلى سورية؟