"مسافة السكة"

هل تشكل الزيارة الملكية السعودية الحالية إلى مصر بداية مرحلة جديدة في التقاط النظام العربي أنفاسه من جديد؟ هذه الزيارة التي عدت الأكبر منذ سنوات طويلة حيث ضمت العشرات من الأمراء والوزراء وكبار رجال الدولة السعودية تحمل رسالة قوية ليس من السعوديين إلى المصريين بل من الطرفين إلى الإقليم والعالم، فلا يمكن احتمال استمرار العرب خارج اللعبة السياسية الكبرى الجارية في المنطقة  للمزيد من الوقت. 

شهدت العلاقات السعودية – المصرية فترة من البرود على الرغم من النفي المتبادل من قبل الطرفين اليوم لهذا الوصف، وذلك له أسبابه وظروفه الموضوعية، فخلال نحو عام من السياسة المضطربة وعدم الاستقرار ذهبت السعودية إلى ساحات حروب وصفت بأنها غامضة ولا يمكن حسمها، فيما بقيت مصر في حالة جس النبض والانتظار التي وصفت أحيانا بانها انكفاء على الذات. المهم ان هذه الحالة لم تطل والأكثر أهمية أن لا يكون إعلان القاهرة في نهاية هذه الزيارة مجرد رد فعل آني للظروف التي وصل اليها الطرفان. 
بدأت مظاهر التراجع في العلاقات بين البلدين مع بداية دخول السعودية في حرب اليمن "عاصفة الحزم" رغم وجود مصر في التحالف العربي وتوليها مهمة حماية مضائق البحر الاحمر إلا أن حضورها العسكري لم يكن بالمستوى المتوقع علاوة على رفض القيادة المصرية إرسال قوات برية للمشاركة في العمليات العسكرية على الأرض. في هذا الوقت حافظ الرئيس المصري على شعرة معاوية وقال عبارته الشهيرة إن مصر على أهبة الاستعداد للدفاع عن "أشقائها" في الخليج في حال تعرضهم لتهديد مباشر، وأن الجيش المصري سيكون في "مسافة السكة" في حال تطلب الأمر، وإن أمن الخليج خط أحمر، ولكن عمليا بقيت المشاركة المصرية في اليمن في حدودها الدنيا، وبقيت الذاكرة العسكرية والسياسية وحتى الشعبية هي الأقوى والحاضرة وربما هي التي حسمت قرار عدم مشاركة مصر في قوات برية، أي ذاكرة التدخل المصري في ستينيات القرن الماضي في حرب اليمن التي كانت السعودية فيها خصما لمصر وخسرت فيها مصر نحو 20 الف جندي. 
سياسيا، تعد اللحظة الراهنة أكثر اللحظات حساسية وملاءمة لكي تتفق الدولتان على أجندة سياسية واستراتيجية مشتركة، فالدولتان هما الأكبر عربيا من منظور الكتلة الحيوية والدور السياسي واستمرارهما خارج الترتيبات الدولية يعني انتحارا لهما. السعودية تواجه أزمة تداعيات الاتفاق الغربي الإيراني وأزمة حقيقية في تحالفاتها التي شيدتها مؤخرا وعلى رأسها تحالفها مع الأتراك، وتواجه أزمة في الموقف الذي تجد نفسها به في سورية وربما وصلت إلى قناعة بأن الحل السياسي هو الأقرب ولا بد أن تكون لها مساحة لموطئ قدم في سورية القادمة وربما تكون البوابة المصرية مدخلا لهذا الامر، أما الموقف في اليمن فعلى رغم أن الإنجازات هناك أكثر مما تحقق في سورية من منظور سعودي إلا أن الموقف ما يزال يحيطه الغموض والإرباك تحديدا بعد الخطوات السياسية الأخرى. وهناك خشية من أن تفقد السعودية الانضباط الخليجي خلفها بعد الحديث عن خلافات سعودية – إماراتية حول ما يجري في اليمن، في مقابل كل ذلك الاشتباك السعودي تعاني القيادة المصرية من ثلاثة مصادر قلق تحتاج لمساعدة سعودية في الخلاص منها. المصدر الاول الأوضاع الاقتصادية الخانقة والتراجع الكبير في قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، والثاني حالة العزلة الإقليمية والدولية وتراجع مكانتها العربية، وثالثا حاجة النظام المصري إلى المزيد من الشرعية وتخفيف الحملات الدعائية المناوئة له. 
تاريخيا، العرب يبردون بسرعة ويسخنون بسرعة أيضا، لكن الخطوة المصرية – السعودية وما تبعها من إعلان سياسي تعد بمثابة محاولة لترميم مفهوم الأمن القومي العربي الذي انتهى عمليا منذ زمن، تحمل بعض التفاؤل الموضوعي انه الممر الإجباري، ويجب أن نأخذ هذا التطور على  محمل الجد وننتظر ماذا تحمل الأيام القليلة القادمة.