إيموجي

يوماً تلو آخر تفرض التكنولوجيا الذكية حضورها في الحياة اليومية وأثرها في العلاقات الإنسانية، مُبَدِّلةً كثيراً من وقائع العيش وطقوسه. ما عرضناه في مقالة الأسبوع الماضي عن تأثيرها في النص الإبداعي، يغدو أكثر وضوحاً في السلوك اليومي على اختلاف ثقافات ومجتمعات باتت متداخلة إلى حد تكاد تنتفي معه خصوصياتٌ ينتصر لها قوميون وشوفينيون. فيبدون كمن يحارب طواحين الهواء.

الهواتف والألواح الذكية هي ذاتها في أنحاء المعمورة كلها، التطبيقات الرقمية ذاتها، مواقع التواصل إياها. وحده المحتوى يختلف بين مجتمع وآخر، فما هو مباح هنا محرَّم هناك، أو العكس، ومع ذلك فإن الاختلافات تتقلص تباعاً. الكل يتابع الكل، والكل يتواصل مع الكل. حتى حاجز اللغة راح يتفكك نتيجة الترجمة الفورية في الوسائط المذكورة، ويتوقع الخبراء انهياره كلياً في السنوات العشر المقبلة بسبب تطور تكنولوجيا الترجمة الذكية.

ما نتابعه في «بنما ليكس»، وقبله في «ويكيليكس»، ليس سوى إشارة أخرى الى أن التكنولوجيا الحديثة لن تترك «ستراً مغطى»، لا السرية المصرفية ولا التهرب الضريبي ولا الصفقات المالية المشبوهة، وقبل ذلك الخصوصيات الفردية. ها نحن نلاحظ كيف صارت النجمات العالميات يتشاركن لحظاتهن الحميمة مع ملايين المتابعين. الصورة باتت عنصراً «عضوياً» من عناصر الحياة فارضةً شروطها على علاقة الإنسان بجسده ومظهره الخارجي، ليس فقط من الناحية الشكلية، بل من الناحية النفسية أيضاً، صور «السيلفي» خير برهان. لعل مسألة الجسد وتكيِّفه مع المستجدات تبدو أكثر وضوحاً في المجتمعات التي لا تعتبر الجسد عيباً ولا عورة.

سابقاً كانت المناسبات الاجتماعية من أعياد وأفراح وأتراح تستدعي زيارات ومجاملات مستهلِكةً كثيراً من الجهد والوقت. اليوم يكتفي كثيرون برسالة «واتس آب» نصية أو صوتية، باقة الورد الفعلية حلت مكانها باقة ورد افتراضية من قائمة «الإيموجي»(emoji) لا عطرَ لها لكن مرسِلها يشعر أنه أدى قسطه. حالات الفرح والحزن بات «الإيموجي» ضاحكاً أو باكياً يُعبِّر عنها، لذا لم يكن مُستهجَناً اختيار معجم جامعة «أوكسفورد» لرمز «الإيموجي» الضاحك كلمةَ العام ٢٠١٥ (علماً أن الكلمة يابانية الأصل). فَوِفْقَ رئيس قواميس أكسفورد، كاسبر غراثوول، «ليس مستغرباً أن تتسع الكتابة التصويرية بالرموز التعبيرية لسدّ ثغرة في اللغة، لم تعد الحروف الأبجدية قادرةً على التعبير عن كل ما يدور في خلد الناس في القرن الواحد والعشرين. فالرموز تتسم بالمرونة والفورية، وتخلّف انطباعاً جميلاً»، ونتيجة لذلك «أصبحت (الرموز) شكلاً ثرياً للتواصل بما يتخطّى الحدود اللغوية». وصار للـ «إيموجي» يوم عالمي هو السابع عشر من تموز (يوليو).

مستجدات «اللغة الافتراضية» التي تعيد الأبجدية كما بدأت رموزاً وإشارات تحتاج بحثاً خاصاً نعود إليه لاحقاً، حتى العملات الورقية سوف تختفي وفق توقعات الخبراء المصرفيين، شاشة التلفزة التقليدية بدأت تفسح المجال للشاشة التفاعلية الشاملة (multimedia homeplatform). الذكاء التكنولوجي يُسَهِّل الحياة ويخفِّف الأعباء الملقاة على عاتق البشر.

لكن سؤالاً لا بد منه: كيف نتجنب أن يكون الأمر على حساب البشر، خصوصاً الشعوب غير المشاركة في إنتاج هذا «الذكاء»، ونتلافى أن تغدو الأجهزة والأدوات أكثر ذكاءً من مستخدميها؟ لعل التحدي الوجودي الأكبر أمام الكائن الإنساني المعاصر، الذي جعلته الآلة الاصطناعية مجرد برغيٍّ في ماكينتها الهائلة، هو ألّا يتحوَّل مجرد «إيموجي» في آلة رقمية لا حدود لما يمكن أن تبلغه.