فساد متوحش

وثائق بنما المليونية، المسربة أو المعلنة، كشفت عن مليارات المليارات من الدولارات، من أموال وشركات وهمية، وحسابات سرية، يدخرها مسؤولون كبار، بمن فيهم رؤساء دول، ومتنفذون ورجال أعمال وغيرهم، تم جمعها أو نهبها، من أوطانهم ومواطنيهم، وبخاصة الفقراء منهم. وللعالم العربي نصيب وافر فيها. يحمل المواطنون هؤلاء على ظهورهم رغم أنوفهم، ويتحملونهم متصبرين تحت وطأة القهر والإذلال والاحتيال. إلا أنهم ليس لديهم مشاعر إنسانية حية، أو ضوابط أخلاقية نبيلة، تمنعهم من أن (يدسوا) أيديهم في جيوب المعوزين ليخطفوا بقايا دراهم معدودة، حازوها بعرق غزير وجهد كبير، او يستخرجون لقيمات من أفواه أطفال بالكاد ينفق عليهم آباؤهم.
هؤلاء الفاسدون الذين لاحدود لجشعهم، من ذوي الياقات البيضاء، والاناقة الفاخرة، والعطر النادر الفواح، والابتسامات اللزجة المبتذلة، والتنعم الظاهر، وربما تلطف ولباقة ايضا، ولكن كل هذا وغيره لا يستر انهيارا قيميا، وتوحشا نفسيا، وجمودا في المشاعر، وخلاف ذلك مما ينفي إنسانيتهم، رغم الظاهر الطاعن في التأنق.
هذه الشريحة – وإن كانت ضيقة – من الناس يقدمون أنفسهم للمجتمع من خلال دعاية مزخرفة، او انتخابات مزورة، او يحصلون على أعلى الوظائف، او التسهيلات والمشاريع والعطاءات بأبسط الوسائل، بغير حق او بغير كفاءة.ورغم توفر كل أسباب العيش الرغيد بل الرفاهية البالغة، بالحلال والشرف لو رضوا او اقتنعوا، إلا إنهم، لايحرمون الا ما امتنع عليهم او عجزوا عن نواله بكل حيلهم وخداعهم، كما يصدق عليهم المثل الشعبي(إيده في الزيت وعينه على راعية البيت). هؤلاء من أكبر المدافعين عن الاستبداد والقهر، الذي يعقدون معه تحالفا، يغنيهم ويبقي على تسلطهم وفحشهم، وهم أكبر أعداء الإصلاح والعدل والحرية والحكم الرشيد والشفافية.
ومع التأكيد أن الأكثرية الكاثرة هي من هؤلاء الفاسدين، فإن هناك أقلية قليلة من بين من تم التأشير عليهم، ربما كانت بريئة. كما لا ينبغي للمصلحين، او الساعين للإصلاح والمتشوقين له، ان يضعفوا في التصدي للفساد، ولا ان يقعدوا عن ملاحقته، متبعين الاساليب الصحيحة، والعدل والموضوعية، ومعتبرين بما تم كشفه، بأن الفساد لا ينعدم ولكنه قد ينحسر ويحاصر، بالمتابعة المثابرة والعمل الدؤوب المنطلق من اليقظة التامة، ومدركين أيضا ان لهذه الفضائح العالميــــــــة تداعيات ايجابية ستظهر آثارها ولو بعد حين، وحــــــتى مع العلم أن ما تم الكشف عنه، ليس هو كل ما هنالك.