أوراق بنما: أزمة السياسة وأزمة الصحافة

في الوقت الذي تقدّم فيه التسريبات الصحافية التي باتت تعرف باسم "أوراق بنما" مؤشرات على استعادة الصحافة لعافيتها بعد نحو عقدين من أزمة أخلاقية ومهنية محتدمة في أداء هذه الوسائل على المستوى العالمي، فإن علينا التمهل قليلا وأخذ كل ما يتردد عن وجود شبه سياسية في عملية التسريب وفي التوقيت الذي نشرت فيه هذه الأوراق على محمل الجد، وقبل ذلك على الصحافة التي عرضت أكتافها لحمل هذه القضية أن تكمل المهمة، فما تزال المهمة ناقصة وغامضة في معظم الملفات التي فتحتها.
المشكلة الأخلاقية الكبيرة أن وسائل الإعلام تمارس حاليا نشر أسماء أشخاص سواء من السياسيين أو رجال الاعمال أو الرياضيين أو المشاهير ضمن ضجيج عالمي هائل يتحدث عن فضيحة كبرى دون وجود إثبات أو دليل على ارتكاب هؤلاء الأشخاص للفساد أو مخالفات قانونية، فيما تضخ وسائل الإعلام بالمعلومات والآراء والتحليلات التي تنمط كل من ظهر اسمه في أوراق ومراسلات شركة خدمات قانونية في نمط واحد، ووضعهم في سلة واحدة وهي الآلية الدعائية التقليدية التي تعود إلى الحرب الباردة وما قبلها، والتي تُعنى بتنميط الصور الذهنية وهذا سواء تم بدون تخطيط أو بتخطيط، فهو بدون شك ممارسة غير أخلاقية تجعل وسائل الإعلام تخسر كل ما كسبته في هذه القضية.
هذا التنميط نلاحظه في الجانب القانوني الذي يتناول نشاط شركات الأوف شور أو شركات التجنب الضريبي وهو نشاط شرعي في معظم الدول؛ فبدون شك أن التهرب الضريبي جريمة، وبدون شك أن ممارسة رجال أعمال لأنشطتهم أثناء وجودهم في السلطة كمسؤولين رسميين جريمة أكبر، ولكن هذا النمط من النشاط الاقتصادي له أهداف أخرى أي إنه يشكل ملاذا ضريبيا بمعنى تقديم تسهيلات تعد في الكثير من دول العالم نشاطا شرعيا مما لا يجعل كل رجل أعمال أو شخص ورد اسمه في هذه الأوراق فاسدا، وهذا للاسف ما لا تنتبه له وسائل الإعلام التي يمارس بعضها دور المحاكم والقضاة.
ثمة أسئلة كبيرة تطرح اليوم حول من يقف وراء هذه التسريبات؟ ومن مول هذه العملية ودفع الأموال لمئات الجهات التي ساهمت في تفاصيل عديدة لا تتوقف عند وسائل الإعلام؟ ومن حدد أجندة الأوراق التي على الصحافة التي تستقصي خلفها أو تهملها؟ ولماذا اختير هذا التوقيت بالتحديد؟ من حق الجمهور في العالم أن يعرف إجابات عن هذه الاسئلة.
ردود الافعال المتناقضة والمتعددة عالميا ما تزال غير متبلورة وغامضة ايضا، موقع ويكيليكس اتهم الحكومة الأميركية بالوقوف وراء التسريبات وأشار إلى أن المشروع الذي نفذت من خلاله هذه العملية وهو "مشروع رصد الجريمة المنظمة والفساد" يموّل مباشرة من قبل إحدى الوكالات الأميركية. الروس ذهبوا مباشرة إلى مد أصابع الاتهام نحو الإدارة الأميركية حيث اتهموها علنا بأنها تقف وراء هذه التسريبات، وقصدت ضرب الرئيس الروسي بوتين وحلفائه وتشويه صورته أمام الرأي العام الروسي وتحديدا قبيل الانتخابات الروسية القادمة، وبعيدا عن هذه الصيغة التقليدية التي يواجه فيها الكرملين مثل هذه الأزمات، فإن العالم لا يتفق على براءة هذه التسريبات ولا على القيمة الفعلية لها.
ما يزال الوقت مبكرا، للوصول إلى حكم حول ماهية هذه التسريبات وقيمتها الفعلية، وعلى كل الأحوال إذا ما استطاعت الصحافة بناء تحالفات مهنية وأخلاقية جادة وأكملت المهمة وأخرجت الرأي العام من هذه الأحاجي، فستكون "محطة بنما" علامة فارقة لاستعادة الصحافة لدورها باعتبارها رقيبا عاما باسم المجتمع، ولا نتمنى أن نكتشف بعد حين أن خلف الفضيحة السياسية التي أشعلتها أوراق بنما فضيحة أخرى.