وهذه الأسئلة تقتضي أن نقول: إن مفهوم الدولة المدنية يتداخل مع عدد من المفاهيم التي يعتبرها البعض إما مرادفة أو مكوناً من مكونات الدولة المدنية، من هذه المترادفات: الدولة الديموقراطية أو الدولة العلمانية أو دولة القانون والمؤسسات، أو دولة سيادة القانون.
هذه المكونات لم تحز على تعريف قانوني محدد ومتفق عليه، إلا أن التوافق على ملامحها متيسر وقد يستوعب جميع هذه المترادفات، وقد صاغها بتقنية عالية الإصلاحي والباحث الأردني د. «مروان المعشر» في مقاله «شروط الدولة المدنية» ، وإذا استخلصنا من هذه الملامح هوية تقريبية للدولة المدنية فهي الدولة المعاصرة التي يتساوى بها المواطنون أمام القانون في الحقوق والواجبات، وتخضع السلطة فيها للتداول السلمي الديموقراطي، واحترام حقوق الإنسان وحق المواطنة، لا سيما حقه في التعبير وتكافؤ الفرص في ظل سيادة القانون على الجميع دون استثناء ومع فصل كامل ومتوازن لسلطات الدولة الثلاث، وتوفير ضمانة القضاء المستقل بما يعنيه مفهوم الاستقلالية. الترجمة الواقعية لهذه الشعارات يجب أن تتم من خلال تشريعات الحداثة المستنبطة من فكرة النفعية والعلمنة نسبةً إلى استخلاصات العقل البشري من القوانين والتطبيقات العلمية وقواعد الحوكمة السياسية الرشيدة، وهذه أهمّ ما يميز الدولة المعاصرة الحداثية عن دولة القرون الوسطى، فالدولة المعاصرة دولة قانون، بينما الدولة الثانية هي دولة القبيلة أو العشيرة أو الملة أو الطائفة. والسلطة في الأولى للشعب، وفي الثانية للحاكم أو من يحيطون به، والذين يتخندقون وراء تفسيراتهم الخاصة حول نصوص العقد الاجتماعي، المجسد بالدستور في وجه التغيير بحجة القدسية والثبات، بالرغم من أنّ وجود الدستور بمثالياته ليس شرطًا أو مؤشرًا صادقًا على وجود الدولة المدنية الديمقراطية أو دولة القانون، حيث تخضع هذه المفاهيم لتفسيرات متباينة حسب موقع كل طرف من أطراف العقد الاجتماعي، فقد تراها الدولة بمنظور مخالف، فدولة القانون من وجهة نظر السلطة هي فرض القوانين التي تعزز من سلطة الحكام ومن حولهم، ووضع قوانين صارمة على حرية التعبير أو تجريم الحقوق الأخرى هو أحد تطبيقات دولة القانون من وجهة نظر الحكومات، بينما ينظر الصحفيون إلى هذا التجريم الظالم على أنه انتهاك لدولة القانون التي تنص في جانب من دستورها على كفالة حرية التعبير وحق إبداء الرأي.
مفهوم الدولة المدنية مفهوم مثالي، وربما يجد جذوره في فلسفة غروسيوس الألماني و كامبرلاند الإنجليزي، رواد المدرسة المثالية أو الطبيعية، وقد تحول إلى شعار سياسي ينادي به الحكام تارةً، وتارةً أخرى ينادي به المحكومون، وكل منهم يبيت تفسيره الخاص لفكرة العقد الاجتماعي، لكن الفكرة تتجذر بنسب متفاوتة تختلف من دولة إلى أخرى، وتنعكس من خلال نصوص قانونية تعكس واقعًا معينًا لمجتمع معين ونظام حكم معين بمواصفات تطبق على أرض الواقع، وتؤدي المؤسسات فيها مهامها كمؤسسة بكيان قانوني منفصل عن شخص الحاكم، ويحكمها نظام قانوني مستنبط من الواقع المثالي الحضاري المعاصر، قادر على تجاوز العرف السائد الموروث إذا تعارض مع مبدأ الشرعية القانونية والنصوص، ويجب أن يكون الدين بطهره وسموه بعيداً عن قوانين السياسة والحداثة الخاصة بالمعاملات والخاضعة للتعديل والتغيير المستمر حسب متغيرات العصر وتطوره وحاجات أفراد المجتمع. وجود التشريعات الوضعية كالقانون المدني وقوانين العقوبات أمثلة على ذلك.