طفال للبيع!



من بين فيض هائل من الأخبار المرعبة، المتواترة تباعا عن الحروب الدائرة في أربع دول عربية فاشلة، وكلها أخبار مثيرة للأسى والحزن الشديدين، حط على رؤوس قلوب الملتاعين نبأ بيع أربعة أطفال سوريين مهجرين إلى لبنان، بمبلغ ستمائة دولار، في صفقة تهز الضمير الإنساني، عقدها أميركي مع سيدة سورية لاجئة في بيروت، ادعت أنها تؤوي أولئك الأطفال الذين كانوا جيرانا لها في حلب، وأنها غير قادرة على إعالتهم، ولا على استخراج أوراق ثبوتية لهم من المفوضية العليا للاجئين، كونهم دخلوا بطريقة غير شرعية.


ليست هي المرة الأولى التي تتمخض فيها المأساة السورية عن أبشع ما تتجلى عنه الحروب الداخلية المديدة، في كل زمان ومكان، من فواجع إنسانية تكاد لا تصدق. فقد جرى تداول قصص عديدة عن الإتجار بالبشر، وعن تجارة الأعضاء البشرية، ناهيك عن زواج القاصرات، والاستغلال الجنسي، وغير ذلك من الفواجع ثقيلة الوقع على الوجدان. غير أن هذه الواقعة المعلنة، من جانب ناشط غربي راغب في تسليط الضوء على مضاعفات تفاقم الكارثة السورية، ربما تكون أكثر هذه القصص إثارة.
ومع أن اللاجئين من كل عرق ودين، كانوا دائما محل تمييز وغبن واستغلال، أينما حلوا في ديار الله الواسعة، إلا أن هذه الفئة المغلوبة على أمرها، المكرهة على ترك بلادها طلبا للنجاة، تتعرض في بعض الدول المضيفة، لاسيما في لبنان، إلى اضطهاد يرقى إلى حد التمييز العنصري البغيض، بلغ أحيانا درجة فرض حظر التجول بعد غروب الشمس، فما بالك إذا كان الأمر يخص الأطفال الأيتام الذين تُبرز حكاية البيع هذه أسوأ مصائر الطفولة المعذبة، وتُظهر ما يحيق بهم من تهديدات تدعو كل المخاطبين بهذه الحكاية إلى الانتباه بسرعة.


ولعل أول المطاليبن باليقظة إزاء تفاقم هذه الظاهرة، التي تجل عن كل وصف، هم أولئك المنخرطون من كل الأطراف في هذا الصراع المفتوح، سواء في المعارضة المشتتة أو في الحكم المتهالك، إزاء ما يتربص بجيل كامل من الأطفال المحرومين، ليس فقط على صعيد الأمان وحق التعليم الأساسي، وإنما أيضا أبسط مقومات الحياة الآدمية، بعد أن بلغ الأمر حد البيع والشراء، وتجاوز كل الخطوط الحمراء، وتعدى حدود تدمير العمران والمؤسسات، ليطال الطفولة والإنسان، ما يعني أنه لم يعد هناك، والحالة هذه، ما يستحق القتال.
فإذا لم يكن الموت الزؤام، المتواصل على مدار الساعة في الليل والنهار، وكل هذا الدمار للبلاد والعباد والآثار، فضلا عن المهجرين في كل البقاع، والغرقى في قيعان البحار، وغير ذلك الكثير مما لا يتسع له المقام، كافياً لوقفة مع النفس، وإجراء ما ينبغي من مراجعات، قد يكون بعضها قد فات، فإن السؤال هو: على ماذا يتقاتل المتقاتلون إذن؟ ولمن يقعقع بالشنان على مدى خمس سنوات طافحات بالدماء، إذا كانت سورية التي نعرفها قد ضاعت، وضاع معها الإنسان، وأخذت الحرب في طريقها الموحشة كل جميل، بما فيها براءة الأطفال؟


من المؤسف حقا أن واقعة بيع الأطفال الأربعة مرت مرور الكرام، فلم توقظ السادرين في غيهم، أو تصدم الضمائر الخربة، ولم تثر ما تستحقه من اهتمام الرأي العام والإعلام، بل وتجاهلتها منظمات حقوق الانسان، وكأن الجميع على خجل مما آلت إليه حرب تدور تحت شعارات الحرية والكرامة والسيادة والممانعة، وكل تلك الرايات المرفرفة فوق الخراب والدماء والأشلاء، الأمر الذي يعيد طرح السؤال ذاته بإلحاح أشد: أي نصر سيحققه هذا الطرف أو ذاك في نهاية المطاف، إذا كانت كرامة الإنسان قد استبيحت، ورخصت إلى هذا الحد؟


أحسب أن هذا الصحفي والناشط الحقوقي الأميركي يستحق جزيل الثناء على كشفه لهذه الواقعة المخزية، التي جرت مثيلات لها بصمت وكتمان، في لبنان وخارجه. فلو كان الأمر يتعلق بصفقة تجارية مشينة، أو سبق صحفي مثير، لما تحدث عنها الكاتب فرانكلين لامب إلى الإعلام، ولا وثق روايته المثيرة للحفيظة، بالصور والأسماء والزمان والمكان، حيث بدا هذا الكاتب الشجاع، وكأنه يصرخ بأعلى صوته: كفى بالله عليكم، لقد تعفنت الجراح المفتوحة، وبدأ الصديد ينغل تحت الجلد، ووصل نخاع العظام.