من بروكسل إلى باريس جدل فرضيات الإرهاب

أثارت الهجمات الخارجية الأخيرة التي نفذها تنظيم (داعش) من بروكسل إلى باريس تساؤلات عديدة حول الفرضيات التقليدية لتصاعد الإرهاب وهوية ودوافع الإرهابيين، فقد كشفت الهجمات الأخيرة عن بروز استراتيجية مركبة للجهاديين الجدد تنطوي على دمج الأبعاد الجهادية المحلية والإقليمية والعالمية باستهداف العدو القريب وفق جهاد التمكين، واستهداف العدو البعيد وفق جهاد النكاية، وقد تطورت هذه المنظومة الإيديولوجية والاستراتيجية في زمن العولمة، وتسارعت فعاليتها عقب دخول العالم العربي حقبة الاننفاضات والحراكات الاحتجاجية، وتعثر عملية التحول الديمقراطي.

هجمات بروكسل في 22 آذار 2016 كما هي هجمات باريس التي وقعت في 13 تشرين الثاني 2015، نفذها جهاديون ينتمون إلى الفضاء الأوروبي من أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين حيث خضعوا لمنظومة سياسية ثقافية تعليمية فائقة الحداثة على صعيد التعددية والحرية والديمقراطية، الأمر الذي يضع فرضية الثقافة الاستشراقية في مهب الريح، ويلقي بظلال من الشك حول مسلمة الاستبداد والديكتاتورية كعلة مفسرة للإرهاب، ويوهن التحليل الطبقي الجاف كسبب مباشر، ذلك أن جهاديي أوروبا الجدد يتجاوزون المقاربات التفسيرية الأحادية المختزلة لظاهرة الإرهاب، فهم تلقوا تعليما علمانيا صلبا، ومعظمهم يتوافر على مستوى تعليمي جيد، وينتمي معظمهم إلى الطبقات الوسطى، وهكذا فإن أطروحة الجهل والفقر والأمية تستقيل كأطر تفسيرية لدوافع الجهاديين.
وعلى الرغم من تأثيرات الحداثة والعولمة وثورة الاتصالات، إلا أن البحث في عوالم الجهاديين تؤكد على أن عمليات الاستقطاب والتجنيد أكثر تعقيدا في الواقع، ذلك أنها تستند في أغلب الحالات على الخبرات الحقيقية المعاشة، ومن خلال شبكات والصداقة، ودوائر الأسرة وأنساق القرابة، وليس في الفضاءات الافتراضية والمتخيلة على شبكة الانترنت، كما يؤكد الأنثروبولوجي الأمريكي سكوت أتران مدير الأبحاث الأنثروبولوجية في المركز الوطني في باريس، صاحب كتاب «الحديث إلى العدو: الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم»، وبحسب الباحث الأنثروبولوجي فرهارد خسرو خافار كما بيّن في كتابه «شهداء الله الجدد»، فإن المؤثرات والدوافع التي دفعت بمجموعة من الشباب الغاضبين المولودين في فرنسا إلى القيام بعمليات انتحارية مركبة ومعقدة، نشأت في ظل فضاءات من التهميش والانعزال بصيغته الرمزية، كما هي أحياء الضواحي في باريس، وحي مولينبييك في بروكسل، حيث يلعب المتخيل دورا كبيرا يتجاوز الأثر المادي، على وقع تصورات الأمة الإسلامية الممتهنة.
في الحالة الأوروبية وهي تتشابه مع الحالة العربية، فإن أغلب الجهاديين الجدد ليسوا من خريجي المدارس الدينية، ولا يأتون من ساحات المساجد، ولا فضاءات الإنترنت، فبحسب سكوت أتران يحارب الجهاد اليوم باعتماده أكثر أشكال التعاون الإنساني بدائية وأولية مثل القرابة العشائرية، والصداقة اللتين باتتا تلتقيان اليوم من أجل قضية هي من أكثر أشكال التعاون الثقافي الذي أنشأ تطورا ورقيا ممثلا بالخلاص الأخلاقي للإنسانية، فالصداقات وعلاقات القرابة هي ما بات يحرك الجهاد اليوم، كما في حالة أفراد خلية هامبورغ وهي الحلقة الأساسية في أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، ومفجري القطارات في مدريد 2004.
أما بخصوص علاقات القرابة، فإن ما يلحظه أتران في هذا الشأن، هو أن الجهاديين غالبا ما باتوا يعتمدون على العائلة والزواج لاستكمال مجموعاتهم المقدسة، وهو تطور مهم، لأنهم عندما استطاعوا تشكيل مجموعاتهم بناء على علاقات القرابة والزواج، أصبحوا مقيدين بشكل متصاعد بثقة يصعب على مجهودات مكافحة الإرهاب أن تخترقها أو تكسرها. وهو الملاحظ في بعض التفجيرات، مثل تفجير بالي 2002، وتفجيرات فندق ماريوت في جاكرتا 2009، ففي التفجير الأول ثلاثة من المشاركين كانوا إخوة، وفي التفجير الثاني أربعة من العناصر الرئيسية كانوا من عائلة واحدة. وهذا ما لوحظ أيضا في تفجيرات مدريد، وتكرر في هجمات باريس الأولى مع الأخوين شريف وسعيد كواشي، والثانية مع الأخوين إبراهيم وصلاح عبد السلام، وكذلك هجمات بروكسل مع الأخوين خالد وإبراهيم البكراوي، وقد كشفت التحقيقات عن علاقات صداقة واسعة داخل هذه الشبكات.
خلاصة القول تشير إلى تعقد ظاهرة الإرهاب واستقالة التفسيرات الأحادية، فهي ظاهرة مركبة معقدة تتداخل فيها الأسباب المادية بالرمزية والإيديولوجية بالدينية والمحلية بالعالمية، وتنطوي على أبعاد سباسية اقتصادية اجتماعية ثقافية، وتتنوع معها دوافع الفاعلين ومقاصدهم وغاياتهم النهائية، لكنها في الحالة الإوروبية تدل على أزمة يعانيها الوسط الاجتماعي المسلم في أوروبا، تتجاوز أزمة هوية تتعلق بجماعات اجتماعية مهمشة أو أزمة اقتصادية أو أزمة دينية ثقافية فقط، فبحسب الأنثروبولوجي إيمانويل تود يبدو جهاد الضواحي الفرنسية خيارا مثاليا للحصول على الاحترام وتحقيق العدالة، كرد على مخيال الطبقة الوسطى والعليا الذي أخذ يتشكل في فرنسا خلال السنوات الماضية، وهو مخيال أخذ يخشى على مستقبل العلمانية الصلبة في فرنسا، لذلك بات يندفع إلى البحث عن خصم محدد في الإسلام الموجود في الضواحي، ليحل محل كاثوليكيتها التي لم تعد قابلة للاستعمال، لتحميله الأزمات التي تعصف بهذا المجتمع، لكن المؤكد أن المقاربة الأمنية العسكرية وحدها لا تنجح في نزع التطرف ومحاربة الإرهاب، بل تعمل على خلقه وبعثه بصور وأشكال أكثر عنفا وأشد فتكا.