"عزوزة" رواية أهل البادية المغربية

اخبار البلد

 

بقلم:صابرين فرعون

في بنيتها السردية، تقوم الروائية الزهرة رميج بالاشتغال على هيكلية العمل الروائي من خلال فنياته، واستنطاق جسد النص بإخراج التجربة عن ذاتيتها واعتبار فكرتها ظاهرةً سلوكيةً عامةً في البؤرة الحقلية المكانية والزمنية "البادية المغربية" فترة الاستعمار الفرنسي، التي كانت عاملاً أساسياً في تحريك الأحداث وتنشيطها، كذلك من خلال تداخل صوت الأنا الروائية مع صوت الساردة داخل النص الحكائي، المُلِمة بعقلية المجتمع البدوي وعاداته وتقاليده وأدق تفاصيله المجتمعية" طعامه، الوصفات العلاجية والتجميل النسائي، الأغاني والأهازيج والأمثال الشعبية"، فتعتمد الروائية رميج الصور الانزياحية، باعتبارها آراء متفاوتة تقوم على الجدل الكتابي والمرجعي للواقع وتحاوره، لتكوين المفارقة والاقتران بين الواقع المُعاش والواقع الحكائي والسماح بالتأويل، من باب تفكيك النص إلى عناصره وتعرف وظيفة الفنيات والأسلوبية المعتمدة في السرد وتسليط الضوء على الموضوعات المطروحة. 

اعتمدت الروائية رميج الأسرة كنواة أساسية للمجتمع، فأفراد تلك الأسرة كل منهم في صراع مع نقيضه، وكلهم يكشفون ثغرات الانقياد للعاطفة..

يتمثل الصراع بدايةً في تمرد عزوزة على زواج الأقارب ورغبة في الزواج بأحمد "من قبيلة أخرى"، ذلك الحب تدفع ثمنه منذ أول ليلةٍ تطأ بيت زوجها، فحماتها "غنو" التي أرادت أن تزوج ابنها لابنة خاله للحفاظ على أملاكهم وعدم حصاد الغرباء والتمتع بثروتهم، تكدر حياة كنتها ولا تتوانى عن استغلال وسائل التنغيص، من هنا تبدأ الأحداث بالتصاعد حيث يصير الحُب في مواجهة أنانية الحماة، حيث ترى أن ابنها ملكها وليس ملك أهوائه وقلبه، يرتفع التحدي وينتقل التمرد لأحمد الذي اعتاد حياة اللهو والبغاء، وصار في حيرة بين إرضاء أمه وحبيبته عزوزة، وفي ظل ذلك تتطور شخصيته وتظهر لديه نوازع العنف واضطهاد الأنثى، برغم حبه الشديد لها وعودته لحياة اللهو إلا أن القبلية والحميّة التي تجري في دمه تُظهر عدم قدرته على السيطرة على غضبه وتحرفه عن قيادة الدفة بشكلٍ عادل وكل ذلك في صالح الحماة كونها أم.. ماذا تقول العرب إن هو خرج عن طاعة والدته؟!

يصير التمرد في أوجه بسبب موت والد عزوزة وأخيها عبدالرحيم والتنقلات العديدة من مضارب البداوة إلى ريفٍ قريبٍ، ثم فاجعة السيل الذي جرف مضارب أهل عزوزة وموت أمها وزوجة أبيها، ومعايرة الحماة لكنتها بأنها أم البنات واحتمال عزوزة للشجار معها والذي أدى لانزلاقها في الحمام وإجهاض الطفل "الذكر" الذي نحى بالأحداث لندم أحمد على تغيبه وخاصة أنه تزوج في سن متأخر ويرغب بأن يكون له ولد وريث، تُطوى تلك المكابدة بإنجاب ذكر آخر "حسن" وانتقالهم للمدينة وإنجاب توأم من البنات ودخول حليمة "البنت الكبرى والساردة للتفاصيل" للمدرسة، وزواج أحمد من الحمرية "الزوجة الثانية" ومعايشة نكد الضرائر وانجراف أحمد نحو أكاذيب صديقه بنحمادي الذي يطمع بطلاق عزوزة من أحمد وزواجها به، واكتشاف أحمد أن بنحمادي جاسوس للمستعمر الفرنسي وإنهاء صداقته به بمشاجرة كادت تودي بحياة الجاسوس، ثم تدهور تجارة أحمد وتخليه عن فرسه "الأدهم" ليكون لقمةً طرية وشهية لزبائن الشاري، ثم تطليق الحمرية وإصابة أحمد بالعنت ورفضه إخبار زوجه عن حقيقة مُصابه الذي أدى إلى شرخ في علاقة الزوجين، فما كان منها إلا حفظ ماء وجهها وعدم التقرب منه، فقد شعرت بإهانة الأنثى فيها وهو يصدها، وبقيت تكتم حنينها وحبها له في حياته، حتى كاشفتها هنية "أخت أحمد" بسر مرضه..بقيت عزوزة تحب زوجها لآخر لحظة من عمرها حتى بعد نجاح العملية رفضت أن تقاوم رغبتها في العيش من دونه فانتحرت، مما أودى بحليمة الساردة للانهيار وقضاء الوقت في مصحٍ نفسي تبدأ به بكتابة رواية "عزوزة" بثيمة الاسترجاع الفني..

احتوت الرواية مزاوجات ومفارقات تُعمل ذهن القارئ للرؤية من زاوية جديدة مُطلة على مجموع الشخوص في أسرة واحدة، غالبية تلك الشخصيات ديناميكية أدت لتطور الأحداث ونموها وسلطت الضوء على بواطن العقل المتمسك بالعادات والتقاليد وانتصرت للحب برغم النهاية التراجيدية وفجائع الموت والفقد على طول السرد، وهو أمر واقعي لا مناص منه..

ركزت الأديبة رميج في هذه الرواية على عدة ثيمات، أهمها الصراع الداخلي "تذويت الذات" وصهر صوت الأنثى المقهورة المحبوسة بين حيطان المنزل، كذلك سلطت الضوء على العلاقات التواصلية التي تحتاج  لدمج العقل والعاطفة في التعامل مع المواقف الحياتية، كتعامل الحماة والكنة، وتحالف الضرائر ضد الحماة بعد معركة آخت بينهما، وحتى في تلك العقبات التي وضعت عاطفة العشق والهيام بالمحبوب في مواجهة شرسة، لا يلين أحدهما ولا يتنازل عن موقفه، كذلك وظفت التفاصيل لصالح السرد بشكلٍ دقيقٍ لا يخرج أو ينزاح عن الإطار الحكائي، فمثلاً: الخيل لا يتم تفريقها عن صاحبها، كونها صاحبة أُنفة وكبرياء وجموح، هذه الفنية استغلتها الروائية لصالح النص في مدلولات عدة معاني صاحبها عنصر التشويق، كذلك اعتماد الجنس في تطوير شخصية أحمد، الذي ينهزم أمام جسد زوجه عزوزة وفاءً للعاطفة التي فتحت بريق عينيه على الشهوة وليس العكس، فالروح كانت امتداداً وجسر عبور لفك أسرار الجسد الملغوم بحشمة البدوية وحميّة البدوي..

على طول الرواية حيرتني أسئلة كما: لماذا اختارت الأديبة الزهرة رميج "عزوزة" عنواناً للرواية؟ لماذا لم تختر ما ينصف ذلك الحُب ويجمع بين تلك الروحين باعتبار أحمد كابد كما عزوزة؟ ألم يكابد أحمد نار أمه وانتهت حياته وهو يتعذب لعدم قدرته على إسعاد عزوزة التي كابدت بدورها من كبريائها وعنفوانها ومعاندتها لكل الظلم؟ ألم تنتصر هي باحتفاظها برائحته وبقاياه في خزانتها وكانت تحترق وهي توصد الخزانة على تلك الذكريات، ولا تُطلع كاتمة أسرارها على هذا السر وفي المقابل كانت لا تتوانى عن القول والمهادنة أنه سبب مأساتها حتى بعد موته؟! ألم ينصف السرد أحمد كما عزوزة في لعب دور البطولة، وصراع المكابرة أساس هذا الاكتمال بينهما؟!

في محاولة الاجتهاد للإجابة: عندما سمى والد عزوزة ابنته بهذا الاسم، كان يتمناها صبياً وهي في بطن أمها، وعندما أتت صمّم على أن يعاملها كما الولد حتى أنها كانت تصاحبه في مجالسه، فجاء بالاسم قياسياً حيث اشتق من المذكر اسماً مؤنثاً، وعزوز بمعنى الشديد القوة والكثير الغلبة، وكانت هذه العزوزة التي تزوجت طفلة "بالغة النمو" قد عايشت في زواجها مآسٍ، في الشكل الطبيعي والواقع سيتم اختصارها بالطلاق وتشرد الأطفال والتجني عليهم ولكنها كانت قوية كما الأدهم، تشابهت الأنثى والفرس بأنهما شمختا أمام سخط أحمد وغضبه..

كانت النهايات كلها في صالحها وكانت هي عزيزة النفس، تحيلها أوجاعها لأصلها، فكلما طرق الحزن بابها كانت توصده بتذكر شهامة والدها وتزويجها من تحب.. من ناحيةٍ ثانيةٍ، تفاصيل العنف الأسري الذي وقع على عزوزة من زوجها أحمد والتي سيتم الوقوف عندها بين موافق ومعارض للزوج، في ترويض زوجته للسمع والطاعة العمياء لوقف كدر العيش، هذه الظاهرة التي تتفاقم يومياً ويتم التستر عليها والرضوخ لها بدلاً من معالجتها..

رواية "عزوزة" في طبعتها الثالثة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع تأتي بعد روايتي "الناجون"، "أخاديد الأسوار" والمجموعة القصصية "صخرة سيزيف" عن نفس الدار..