قيم التخلف وسدنته

التخلف هو نتاج بشري بامتياز، يستند في مرجعياته على قيم ينافح عنها المتخلفون بكل ما أوتوا من قوة، وقد يكون من السهل جداً على سدنة هذا التخلف وأقطابه ملاحقة المختلفين، ناهيك عن المخالفين، بقوائم طويلة من المستندات التراثية بطرائق مختلفة من التأويلات، لتتسيّد أدواتها على كل فعل مخالف أو حتى رد فعل رافض له.

 

 

قد نرى هذا التخلف بشمولية متسيدة تستخدم الدين كقيمة عليا لمصادرة صوت الآخر، ووضعه تحت حد سيف بتار حالما يعلو صوته ويصبح مؤثراً، وفي حال استشرى هذا التخلف داخل المجتمع واستحوذ صوته على عقول الناس، فستكون عملية التصحيح والتغيير شبه مستحيلة، ما لم تحدث هناك اختراقات للقوى السلطوية العليا، المانحة لقوته المستغلة لها لأجل السيطرة والاستبداد.

 

 

لذلك، فإننا نستطيع القول جازمين أن للتخلف بناء كاملاً ومحكماً، له قواعد وعاملون بمواصفات تقريباً موحدة وأهداف وغايات، ويعمل أيضاً وفق استراتيجيات وتكتيكات مرحلية، كما أن له ظاهراً وباطناً. أما قواعده الأساسية فمبنية على مصالح الأنا العليا، المتمثلة في مجموعة المبادئ التي يعمل عليها ويريد غرس قيمها في كل عناصر المجتمع، وعناصر المجتمع لا تعني الإنسان فحسب، بل والمؤسسات التعليمية والاجتماعية، بما في ذلك البيت كوحدة صغيرة يسهل اقتحامها والتأثير فيها، حتى تصل إلى نواتها الأكبر، المتمثلة في القبيلة والجماعات ذات الخصائص الواحدة، كذلك ومن قواعدها التي تلتزم بها وتعمل لاختراقها وخلخلتها، دور الإنتاج المعرفي والثقافي والفني، فمتى استطاعت التأثير فيها واستقطبتها وسيطرت عليها، يصبح العمل لصياغة مجتمع غوغائي متخلف أسهل، وبهذا تحديداً تستطيع التأثير في اتجاهات وسياسات السلطات الأعلى، حتى تتمكن من التوغل في القيم العليا لها بطرق «ديماغوجية» ليس للعقل فيها أو العلم أدنى وجود، وبالتالي تبيت بمنعة حصينة من مواجهات الآخر الذي تبتغي هدمه وتقويضه.

 

 

أما أهدافها فيختصرها «الاستحواذ» والاستعلاء والاستبداد بمنصات التوجيه، من خلال وسائل التوجيه والبناء، وهذه مرحلة تالية لبناء الشخصية الاعتبارية للخلايا العاملة المنتقاة بعناية، لتقبل الأوامر من خلال عدد من المراحل التراتبية، فكما تعمل المحافل الماسونية من خلال درجاتها الـ33 لبناء مجموعاتها ويأتي على رأسها الخبير، ثم أهل الصنعة، وفي القاعدة الأشمل والأعم المبتدئون، فإن قادة التخلف وأساطينه يتبعون الطرائق المكونة لخلاياها بالطريقة نفسها، فمن مبتدئ إلى عامل حركي إلى موجّه، وإن استبعدت الماسونية الدين والعلمانية من نشاطها، على اعتبار أنهما مهددان أساسيان لعملها، فإن قيم التخلف اعتمدت الطريقة نفسها مع العلمانيين والمتدينين الحقيقيين العارفين بالله، الواعين لعمق معنى الحرية الدينية التي جاء بها الرسل، وقد لا نجافي عين الحقيقة متى قلنا إن نظرة الماسونيين للمرأة هي مشابهة تماماً لنظرة المتخلفين لها، وإن بدت بطريقة مقلوبة.

 

 

ففي حين كانت المرأة لدى الماسونية عنصراً غير مرغوب فيه، بدت المرأة لدى عناصر قوى الظلام والتخلف قوة يجب السيطرة عليها ووضعها في خانة الاتهام دائماً، ومصادرة حرية تفكيرها، وحرية حركتها، ليكتشف أخيراً كما اكتشف الماسونيون أنها مفيدة، ويسهل الاستحواذ عليها وتوجيهها داخل المجتمعات المنغلقة على نفسها، ومن القواسم المشتركة بناء شخصية رمزية يتعارفون عليها فكما يحرص «البناءون الأحرار» على تأصيل هذه الرمزية فإن رمزية سدنة التخلف مباشرة ومكشوفة ، إذ علقت بأسماء أشخاص منحوا جلالة خاصة، والقيم التي يعملون على زرعها في قلوب الناس وأرواحهم بعيداً عن العقل، حتى أصبح لديهم أخيراً مراكز ثقافية تجمعهم، وقنوات لتمرير رسائلهم، وأكاد أجزم أنك لو استطعت دخول أوكارهم لعثرت على كثير من القواسم المشتركة بينهم، فهم يتعرفون على أنفسهم مباشرة من خلال رمزية المبادئ التي يدعون لها وظواهرها السلوكية، وكما قلنا هناك استراتيجيات معتمدة لعمل جماعات التخلف، من أهمها: الالتزام بقيم الجماعة العليا ورموزها، وهدم القيم المناوئة لها الأخرى، وعلى أخصها قيم الحرية والعقل، والاختلاف مع كل أدواتها من جدل ومراجعات تفتح أمام العقل البشري آفاق الاكتشاف.

 

 

أما ما يتعلق بتكتيكات الجماعة، فهي تدخل في حيز ما يتعارفون عليه بالنوازل، أو المتغيرات المفاجئة التي لا تخدم اتجاهاتهم البتة، وهذا مشتق من مصطلح فقه النوازل، أو فقه الواقع الذي يحلو للبعض تسميته عند السنة، وفقه التقية عند الشيعة، وما يختلف عنهما هو طبيعة العلاقة بينها واستخداماتها لدى المتخلفين الذين تجرؤوا على تسييس المصطلح الشرعي الفقهي، لأهداف لا تخدم سوى غاياتهم الكبرى، والتي كشفتها وقائع الربيع العربي واضحة جلية، فالذين شاغلوا الناس ردحاً من الزمن بتعاليمهم ودعاياتهم الدينية الفجة، هم أول من بادر لتسلّم راية الانقلاب بأقصى صور التطرف وأبشع أشكال القتل و.

 

 

فهؤلاء الذين يتباكون على واقع الأمة، والذين حاربوا ردحاً من الزمن مظاهر الفساد والفسق بحسب مفاهيم التخلف وقواعده، صاروا يوم انفجر صمام أمان الشعوب نسوراً جارحة، وبات دم الإنسان مباحاً كشربة ماء بارد، هؤلاء الذين يريدون أن يكدسوا الجهل والتخلف بيننا هم صور ساكنة لأولئك، الفرق الوحيد أنهم يتحيّنون الفرصة المواتية لحمل السلاح ليس لأجل فلسطين، بل لأجل الوصول إلى كراسي السلطة، ولكن ليس قبل أن يوغلوا في دماء المسلمين، تحت مظلة التكفير التي نراها ونسمعها منهم لكل مخالف لهم، وكما عبّر أحدهم يوماً بوضوح وشجاعة في برنامج حواري أنه على استعداد لقتل كل مخالف له، فالعبارة الواضحة اليوم التي يحملها أقطاب التخلف هي «إن لم تكن معي فأنت ضدي»، إلا أنه لا يستطيع أن يعلنها صراحة بأنك تستحق القتل.