الجامعة العربية.. عبء أم ضرورة؟

تتشابه الظروف التي تمر بها المنطقة العربية اليوم بتلك الظروف التي نشأت في ظلها الجامعة العربية في عام (1945) .. حيث الترهل والتفكك وخضوع دول المنطقة لأنظمة استعمارية بشقيها الانتدابي والاحتلالي .. فجاءت ميثاقها ليكرس خرائط «سايكس بيكو» ويؤبدها بل ويضعها في مراتب القداسة.. وأما المبادئ الأساسية التي قامت عليها لم تميزها عن أي منظمة إقليمية أخرى وتتلخص بما يلي:
1. مبدأ المساواة في السيادة بين الدول الأعضاء واحترام استقلال كل منها.
2. مبدأ عدم جواز اللجوء إلى القوة في نطاق العلاقات العربية /العربية، والالتجاء بدلا من ذلك إلى الوسائل السلمية لتسوية أية منازعات يمكن أن تثور في نطاق هذه العلاقات.
3. مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء.
كما نصت المادة الثانية من الميثاق على أن «الغرض من الجامعة هو توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها وتنسيق خططها السياسية تحقيقا للتعاون بينها، وصيانة لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها». وبذلك تكون الجامعة قد حملت بذور ضعفها منذ نشأتها.
ولكنها وبالرغم من هذه «العيب الخلقي « إلا أن الجامعة العربية حققت منجزات مهمة ما كان لها أن تتحقق خارج هذا الإطار.
لقد دعمت قضايا النضال والاستقلال الوطني للشعوب العربية.. وظلت القضية الفلسطينية إحدى القضايا المركزية الكبرى في سياساتها .. كما ظلت تؤكد على أن «إسرائيل» تمثل الخطر الأساسي « الذي يهدد الدول العربية في مجملها وليس فقط الشعب العربي الفلسطيني.. وشكلت قضية فلسطين الأساس لمعظم مؤتمرات القمة العربية منذ أوائل الستينيات.. فضلا عن أن « القدس» ظل حاضرة في البنود الأساسية والدائمة في كل اجتماعاتها.
ويكفي الإشارة إلى قرارات وسياسات الجامعة في مقاطعة «إسرائيل» اقتصاديا .. والتي تعتبر الإنجاز الأهم للجامعة العربية والتي أبقت «الكيان الصهيوني» جسما غريبا وشاذا في المنطقة.. ناهيك عن قراراتها بدعم الانتفاضة الفلسطينية وحماية المقدسات الإسلامية.
أما على صعيد العمل العربي المشترك فقد نجحت الجامعة في أن تبرم العديد من الاتفاقات لعل من أبرزها : إتفاقية إنشاء سوق عربية مشتركة، وكذلك اتفاقية الدفاع العربي المشترك... إلى جانب « إنشاء مجموعة من الوكالات (المنظمات) المتخصصة، ومن أهمها : اتحاد البريد العربي، والاتحاد العربي للمواصلات السلكية واللاسلكية، ومنظمـة العمل العربية، والمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، والمنظمة العربية للعلوم الإدارية».. وجميعها إنجازات مهمة..
إلا أن العديد من هذه القرارات والاتفاقيات والمعاهدات بقي حبرا على ورق .. وشهد العمل العربي من خلال الجامعة العربية إخفاقات على غير صعيد .. إذ لم تفلح في معالجة أوجه الخلل في النظام الإقليمي العربي.. ولم تتمكن من إلزام أعضائها بالمواثيق والمعاهدات التي وقعوها وأوهموا الشعوب العربية بأنهم سائرون على طريق الوحدة العربية المنشودة.. حتى أن الأمير «خالد الفيصل» يصف حال العمل العربي بقوله « أصبحنا عبارة عن شعوب وحكومات نستدعي الآخرين ليتدخّلوا في شؤوننا ويفرضوا علينا حلولهم.»
فمن المسؤول عن تآكل هيبة الجامعة وعدم احترام قراراتها ؟
في محاولة الإجابة يمكن الإشارة إلى بعض التحديات ومنها:
• هشاشة بنية النظام العربي وتفككه وانقسامه على نفسه أضعف قدرته على معالجة الأزمات والصراعات التي عمّت المنطقة .. وفتح المجال للضغوط والابتزاز الدولي ..والتدخل الخارجي في أزمات المنطقة واستثمارها في مزيد من التفكيك والتفتيت .
• خلل في ميثاق الجامعة الذي ينص في أحد مواده على أن يصدر أي قرار مهم بإجماع الدول الأعضاء ومـؤدى ذلك أن كل دولة عربية عضو في الجامعة تعتبر متمتعة بما يشبه «حق الفيتو»..
على عكس ميثاق الأمم المتحدة فإن ميثاق الجامعة يخلو من « نظام فعال للجزاءات « مما يجعل الجامعة عاجزة عن فرض هيبتها على أي دولة عضو تمعن في انتهاك أحكام الميثاق، كما لم ينص على تحصين قرارات الجامعة أو إلزاميتها على الدول الأعضاء .
• إن أزمة التكامل العربي أزمة سياسية، فغياب الإرادة السياسية لدى الدول الأعضاء، والمبالغة في تمسك الدول بالمفهوم التقليدي للسيادة الوطنية ، والاعتماد الدولي المتبادل.. يشكل عائقا مهما أمام تطوير العمل العربي المشترك !
فما العمل ؟
نحن اليوم أمام اتجاهات : الأول يدعو لإلغاء جامعة الدول العربية وتصفيتها ؛ والثاني يدعو إلى الإبقاء عليها على اعتبار أن وجودها كمنظمة للعمل العربي المشترك أفضل من تصفيتها.. أما الاتجاه الثالث فيرى ضرورة المبادرة إلى «تطوير الجامعة وتدعيم أجهزتها ومؤسساتها، والبدء بتعديل الميثاق بحيث يعزز سلطات الجامعة وصلاحياتها !
في ظل ما تشهده المنطقة من أزمات وصراعات وحروب لا مجال إلا بتدعيم العمل العربي المشترك والذي هو من اختصاص جامعة الدول العربية .. وعليه فإن أي دور مستقبلي فاعل للجامعة يستمد قوته من : الميثاق، والخبرة التاريخية، والتجارب التي مر بها العمل العربي المشترك، والنجاحات والإخفاقات .. ومن طموحات الأمة وتطلعاتها لغد مشرق !
لقد بات تطوير الجامعة العربية مطلباً ضرورياً تمليه التحديات الدولية التي تجعل من التكتلات الكبرى مدخلاً لتحقيق التنمية ووسيلة للاحتماء من المخاطر الخارجية في أبعادها العسكرية والاقتصادية والسياسية..
إن العمل العربي والتكامل يستلزم الإرادة السياسية والشعبية ، وإعادة الاعتبار إلى جامعة الدول العربية ، وإصلاحها ، وتعزيز دورها وتمكينها من القيام بوظائفها .. وإلا ستجد الدول العربية نفسها أمام خيارات صعبة : فإما الانكفاء ، أو الانخراط في نظام إقليمي أوسع يقودها نحو الذوبان وفقدان التمايز والتميز.. أو المزيد من التشظي والاستضعاف !