مشهور حديثة الجازي

لأن لكل حدث شهوده، ولكل فترة رجالها، ولأن البطولة تسجل في صفحات التاريخ بأحرف من نور، ولأن الوفاء يقتضي ذكر أهل الوفاء في حينه، ولأن الموقف شجاعة والبطولة شجاعة، والصمود شجاعة، فإن الحديث عن معركة الكرامة المظفرة يقتضي منا ذكر أهلها وأصحابها، شهودها وقياداتها، فرسانها وشهدائها، الجيش وبطولاته وقوته، المقاومة واستبسالها، أهل المنطقة وعزيمتهم.
ولأننا نتفيأ ظلال معركة الكرامة الخالدة التي حدثت قبل 48 عاما، عندما تم التصدي لقوات الغزو الصهيوني في منطقة الكرامة، فإنه في الذكرى لا بد من ذكر الرجال الصيد ومواقفهم، وفي المقدمة من أولئك يقف الفريق الركن مشهور حديثة الجازي، رحمه الله، الذي سجل اسمه بأحرف خالدة، بقيت محفورة في نقش الزمن، وستستمر محفورة في ذاكرة الأردنيين إلى أبد الآبدين.
ومع أن الكتابة عن رجل بمقام الجازي، واسترجاع مواقفه وشجاعته وجلده، ربما تكون سهلة لكل الكاتبين عنه والمتابعين لسيرته ومسيرته العروبية، بيد أن الكتابة عن رجل قدر لي مجالسته في بعض الوقت، وأنا في ريعان الشباب، تحمل مسؤولية أكبر، وخاصة إن أردت عكس ما رأيته وسمعته من الرجل، ومدى إيمانه بالعروبة والقومية نهجا، وحب الوطن هدفا، والتضحية والوفاء والفداء وسيلة.
ولأن معركة الكرامة كانت بعد 10 أشهر فقط من نكسة كبرى، تعرضت لها الجيوش العربية في حزيران (يونيو) 1967، عندما احتل الصهاينة ما تبقى من أرض فلسطين، واستولوا على الجولان وشبه جزيرة سيناء وبعض مناطقنا الحدودية، فإن المعركة كانت مختلفة ورسالتها للعدو الذي اغتر بقوة جيشه، وبات يعتقد أنه يستطيع العبور إلى أي منطقة يشاء وشرب الشاي في أي منطقة يريد، من دون مقاومة ومن دون عناء، كان يجب أن تكون واضحة بوضوح نهار 21 آذار (مارس) من العام 1968، فكانت الكرامة اسما على مسمى، عبرت عن تلاحم عز نظيره، واستبسال دونه الموت، وقوة في الدفاع عن الأرض والعرض، فتوحدت كل البنادق في خندق الدفاع عن الوطن، وامتزجت الدماء في خندق واحد لتلقين العدو درسا في الاستبسال والمقاومة.
وقت ذاك في آذار (مارس) من العام 1968 كان الفريق مشهور حديثة الجازي قائدا للفرقة الأولى في القوات المسلحة الأردنية، التي كانت مسؤولة عن قاطع الكرامة، حشد قواته وقرأ خريطة تحالفاته، وأيقن أن النصر تصنعه الإرادة، وعزيمة الرجال، وأن التنسيق الجيد يصنع نصرا يعيد الكيان الصهيوني إلى وضعه الطبيعي، فتلاقت إرادة الجيش مع إرادة المقاومة الفلسطينية الموجودة في المنطقة وقتذاك، ليأتي النصر مؤزرا وكبيرا ومفاجئا للصهاينة، الذين طلبوا وقف إطلاق النار وتركوا خلفهم جثث جنودهم وأرتال دباباتهم محروقة.
في ظلال يوم الكرامة نستذكر ذكرى رجالاته الكبار وبطولات الجنود والضباط والمقاومين، وبعد 48 عاما من ذكرى المعركة ونحن نشاهد ونرى يوميا ما تقوم به عصابات الصهاينة في الأراضي المحتلة، يزيد الإيمان بأن هذا الكيان المصطنع لم يكن يوما يسعى للسلام، وهدفه الدائم والأزلي التوسع وقضم الأرض، وترويع الآمنين وقتل الأطفال وهدم المنازل واعتقال النساء، وتدنيس المقدسات.
ونحن في ظلال يوم النصر نستذكر ما آمن به الفريق الجازي، بأنه لا يمكن لإسرائيل السيطرة على شعوب المنطقة مهما فعلت، وأن المستقبل وإن طال الوقت سيكون للأجيال المقبلة، التي تؤمن بأن إسرائيل زائلة ولا يمكن للاحتلال أن يبقى وللاستعمار أن يستمر، وان لا مستحيل مع الإرادة، فقد قدمت معركة الكرامة درسا للصهاينة قل نظيره، وعلمتهم أن وحدة الخندق الواحد تصنع نصرا على الجيوش المدعومة بالطائرات.
رحم الله الفريق الركن مشهور حديثة الجازي، ورحم الله كل أبطال وشهداء معركة الكرامة، ورحم الله كل من شارك فيها، والعمر المديد لكل من شارك فيها، وما يزال يعيش بيننا حتى اليوم، ولنجعل من يوم الكرامة اسما على مسمى ولتبقى عقيدتنا كما هي، وما تزال بأن هناك خلف النهر عدوا يقتل ويطمع فينا دوما.