ليس دفاعا عن خليف الطراونة..!

قبل يوم واحد من انتهاء اعتصام طلبة الاردنية كان قرار الغاء التجديد لرئيس الجامعة د.خليف الطراونة قد صدر ، لم يكن مفاجئا تماما ، لكنه كان صادما لسببين : احدهما ان اداء الرجل خلال اشغاله منصب الرئاسة اتسم بالكفاءة ، باعتراف الكثيرين من داخل الجامعة وخارجها ، وبالتالي فان ابسط ما يستحقه هو تمديد فترة رئاسته اسوة بزملاء آخرين سبقوه في رئاسة جامعات عديدة ، وربما كان بعضهم اقل منه انجازا ، اما السبب الثاني فهو ان التطمينات التي تلقاها على امتداد الايام التي سبقت اتخاذ القرار كانت تشير الى انه باق في موقعه ، كما ان انتهاء الاعتصام "بحل” وسط يسجل ايضا في حسابه وليس ضده اضعف الايمان ،صحيح انه اخطأ في ادارة بعض ارتدادات الازمة مع الطلبة ، لكنه بالتأكيد لم يكن مسؤولا عن اصدار قرار الرفع ، فقد تحفظ عليه وطرح اقتراحات وجيهة لتجاوزه ، وبالتالي فان "معاقبته” بهذا الشكل كانت صادمة بامتياز.

اعرف الرجل ، لكن لا تربطني اية علاقة به ، ولا يخطر في بالي ان ادافع عنه ، ليس فقط لاته لا يحتاج لذلك ، وانما ايضا لان مسألة التعيين والاعفاء من المناصب تبدو مفهومة في سياقات اصبحنا نعرفها تماما ، لكن ما يدفعني الى التوقف امام ما حدث مسألتان هامتان : الاولى هي منطق الثأر الذي اصبحنا نتعامل به مع الموظف العام في مؤسساتنا ، لا اريد ان اذكّر هنا بأخلاقيات الخصومة التي يفترض ان ينحاز اليها المسؤولون الكبار عند الاختلاف ، ولا بمسطرة الكفاءة والانجاز ، ناهيك عن العدالة التي يجب ان نخضع لها عند التقييم والتعيين والتجديد والاعفاء من المناصب ، لكنني اذكّر ايضا بما يحلو لبعض المسؤولين ان يصفقوا له من انجازات واهمها منظومة النزاهة والشفافية التي قيل انها اصبحت معتمدة في بلادنا ، وانها ستحكم اداءنا العام ، لان ما نكتشفه كل يوم هو اننا ابعد ما نكون عن هذه المنظومة ، وان ممارساتنا غالبا ما تتسم بالغموض والمزاجية ، والثأرية ايضا.

اما المسألة الثانية فهي ان ما جرى للدكتور الطراونة سيبعث - بلا شك - برسالة لكل مسؤول او موظف مجتهد بانه لا جدوى من التعب والاجتهاد ما دام ان معيار الحكم على الاداء لا يعتمد على ذلك ، وانما على "مساطر” اخرى اصبحنا للاسف نعرفها ، وبالتنالي فان الحكومة التي كان يفترض ان تطمئننا على مستقبل الوظيفة العامة ، وعلى حق الاختلاف في العمل السياسي ، وعلى قيم النزاهة والشفافية ، تفاجئنا ( هل تفاجئنا حقا ..؟) بان كل ذلك اصبح وراء ظهورنا ، وان على الموظف العام ان يبحث عن قنوات اخرى للوصول الى الموقع العام والبقاء فيه الى الابد ، وربما توريثه ايضا لمن يريد.

اذا دققنا في قصة "ازاحة " الطراونة وفي تفاصيل ما جرى خلف الكواليس ، سنجد ان ذاكرتنا مزدحمة بقصص اخرى كانت صادمة مثلها ، وربما اكثر ، خذ مثلا قضية التنعيينات في المناصب الادارية العليا والانظمة التي جرى تجاوزها تماما ، ثم تمعن في اسماء ومواصفات الاشخاص الذين تم تعيينهم ، ستلاحظ بما لا يخفى على "اللبيب” ان الذين يخرجون من مواقعهم بالاقصاء كعقوبة لا يختلفون عمن ينزلون عليها بالبراشوت ، مع اختلاف بسيط جدا وهو درجة "الحظوة” التي يتمتع بها كل واحد.

سنجد ايضا ان ذاكرتنا التي يعتقد البعض انها اصبحت مشطوبة ما تزال تحفظ قصصا اخرى غريبة حول موضوع التعيينات كنا نظن ان اصحابها اقلعوا عن تكرارها ، كما اننا لم ننس ما حدث على مدى السنوات الاربعة الماضية التي سارت فيها مراكبنا نحو التشدد في اجراءات التوظيف والتقشف في صرف المال العام وضبط الانفاق الرسمي ، فيما الحقيقة ان هذه الاجراءات كلها انصبت على من هم خارج الدائرة الرسمية المغلقة ، هذه التي لم يتغير على من هم داخلها اي شيء.

ربما لم يأت الوقت الذي يحاسب فيه الناس المسؤولين عنهم ، لكن حساب التاريخ اصعب واقصى ، ومع ذلك فان من واجبنا - اذا كنا حقا نعبّر عن الضمير العام - ان نشير الى ما جرى لرئيس الجامعة الاردنية ولعشرات من امثاله ، ثم الاهم ما اتسم به الاداء الحكومي بشكل عام من اخطاء وتجاوزات في ملفات التعيين وانهاء الخدمات ، سيؤسس لحالة غير مألوفة في بلدنا لا يريدها ولا يتمناها احد ، فبلدنا الذي صبر فيه الناس وتحملوا كل المصاعب من اجل ان يظل صامدا ، لم ينحاز ابدا الى "الثأرية” ولا اعتمد منطق العقاب لتصفية الخصوم السياسيين ، ولا تجرأ فيه مسؤول - مهما كان وزنه - على تصنيف الناس تبعا لولاءتهم له، ولا مكاقأتهم على اساس امتثالهم لتعليماته الصارمة..!

باختصار، اذا كان البعض يرفعون امامنا "فزّاعة” اللهيب الذي يحيط بنا لتخويفنا من القادم ، فليس اقل من ان نذكّرهم "بحقيقة” الثأرية التي ستولّد في مجتمعنا ما هو اشد من اللهيب، وما هو اسوأ من التطرف الذي نواجه افكاره وتنظيماته وخلاياة النائمة.