مشكلات قائمة.. في تعليمنا الجامعي وتساؤلات؟
كثيرون الذين كتبوا بوعي وإخلاص، عن مشكلات وواقع تعليمنا الجامعي، وكان الهدف وما زال، هو التطوير النوعي له، ولتحقيق نقلة علمية وتجويدة فيه، لمواجهة متطلبات المستقبل والإستجابة لتطلعات المجتمع، وصولاً إلى وضع الحلول العملية الناجحة، خاصة بعد حصول الأردن على المرتبة الـ (45) من ضمن (140) دولة، كما جاء في تقرير التنافسية العالمية، حول جودة التعليم العالي ومخرجاته التربوية، والصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس 2015/ 2016.
إن ما جاء في هذا التقرير، وفي الواقع الراهن لتعليمنا الجامعي، يدعونا إلى عرض بعض مشكلاته التعليمية بأمانة، بهدف الوصول إلى نظرة علمية جديدة، ترفع من سوية مخرجاته التعليمية، وتحسن من أداء أعضاء الهيئات التدريسية، في التعليم والبحوث العلمية، إذ أن طبيعة هذه المشكلات لا تتماشى مع روح العصر ومتغيراته، ولا تربط بينه وبين واقعنا التعليمي الحالي، في قدرته على الحركة والتغيير، بهدف اللحاق بالدول ذات التجارب المتقدمة فيه، والتي تعتبر الأرقى والأكثر جودة تعليمية وحضارية في العالم، أمثال اسكتلندا وكندا وفنلندا واليابان وسنغافورة، وكوريا الجنوبية والصين...الخ.
وأننا بقدر مانصل بتلك التجارب العالمية المتميزة، وبتلك النظرة العلمية فيها، إلى طبيعة مشكلاتنا الجامعية، فإن من اليسير أن نحدد الغاية والهدف، فنعرف لماذا نعلم، ونحدد الوسيلة، فنعرف كيف نعلم... فإذا تساءلنا لماذا نعلم وكيف نعلم، فإننا نعرض مشكلات تعليمنا الجامعي، على منصة الجدل والنقاش والسؤال. والفرض والحل، وبديلة على أساس الواقع الراهن. عندئذٍ تتضح الرؤية الثاقبة لنا، ولعل أبرز مشكلات تعليمنا الجامعي هي:
أننا في جامعاتنا، ما زلنا نعيش في عصر رجل السياسة والقانون والاقتصاد، ورجل الإدارة والبيروقراطية، لا في عصر رجل العلم والمخطط التكنوقراط. وما زلنا في معظم جامعاتنا الحكومية والخاصة، ننظر إلى العلم والعالم، على أنه وظيفة فوق المتوسط في السلم الاجتماعي، ولهذا نجد العلم فيها وظيفة طاردة، بيئة طرد بشري، يخرج منها الأساتذة العلماء إلى وظائف أخرى، أكثر إغراءً وجذباً. وفي الوقت نفسه، نشكو من ظاهرة هجرة العقول أو تسربها braindrain ، التي تمتد إلينا لحساب بعض الدول البترولية أو الدول الغربية أو الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، وننسى أن بين ظهرانينا هجرة أخطر وأشد تخريبياً: هجرة وخروج الأستاذ الجامعي المميز، من مراكز العلم إلى المناصب الإدارية أو التنفيذية، بمعنى من البحث العلمي إلى الإدارة، أما لماذا؟ فلأن الهرم التعليمي مقلوب ببساطة في معظم جامعاتنا الأردنية!؟. ناهيك؛ أن ضآلة الميزانية المخصصة للبحثية العلمية هي ليست كما ينبغي أن تكون!
إن تعليمنا الجامعي بدأ رائعاً، وتقدم بخطوات جبارة، ثم اعترضه عوائق غير علمية أبطأت من خطاه، وأضيفت إلى العوائق أصفاد كبلت عقول الأساتذة والطلاب، وأكياس تحشي بما يفيد ولا يفيد... ولا ينكر أحد أثر هبوط التعليم العام في تراجع التعليم الجامعي، وأمراض التعليم العام كثيرة ومتنوعة، منها: الوبائي والمزمن والمسبب للعاهات: كإصابة طرق تعليم اللغة العربية والإنجليزية بتصلب المفاصل، وكذا طرق تعليم العلوم الإنسانية والبحتة كالعلوم والرياضيات التي لا تستند إلى فكر واضح يغذيها بالجدة والابتكار والإبداع في عالم يسابق العلم ومنجزاته الفكرية وتطلعاته المستقبلية.
لكن السؤال: مع كل هذا وغيره، كيف؟ وكيف نصل إلى الاستقرار والرقي والتقدم في تعليمنا الجامعي، ورد الاعتبار له في الأردن؟ فالجواب يتضمن أن نعود إلى دور التعليم الجامعي والتكنولوجيا. فنحن في الأردن رغم أننا دولة صغيرة، ليست غنية بمقياس المساحة أو الموارد الطبيعية، لكن اليابان رد بليغ، فالمعجزة اليابانية في التعليم، ليست فيما حققت فحسب، ولكن فيما حققت بمواردها الطبيعية الشحيحة نسبياً. مفتاح المعجزة مع ذلك، يكمن في طبيعة التطور الذي أحدثته الثورة التكنولوجية عموماً. فلعل أخر نتائجها وانقلاباتها، كما يحدثنا الجغرافي «جون كول» أنها أثبتت؛ أن الموارد الطبيعية لم تعدُ هي كل شيء، في التنمية الاقتصادية والتربوية والمادية؛ العلم والتكنولوجيا هما اليوم «المورد» الأساسي والأنجع في عملية التقدم والحضارة... ومع المعجزة اليابانية التي تحققت، غدت اليابان رائدة في علم التربية والتعليم العالمي.
لا شك أننا في الأردن؛ أغنياء في الموهبة، فالموهبة – ينبغي أن توجه علمياً إلى العلم، من أجل البحث في الأسباب الحقيقية لتدني مستوى مخرجات التعليم العالي، وإصلاح منظومة التعليم ابتداءً من البكالوريوس ومروراً بالدبلوم والماجستير وانتهاءً بالدكتوراه... ووضع الحلول الجذرية والفاعلة قانونياً وتنفيذياً. فالعلم أثمن ما يملك الوطن خاصة، والعلم استثمار بشري. أرفع وأربح استثمار... ولهذا نحن بحاجة إلى جيش كامل من العلماء، والعلماء الممتازين المبرزين بالمستوى العالمي، ولدينا الفائض البشري الضخم الذي يوفر الخامة لمثله. لكن النواة المتواضعة حجماً ونوعاً، التي تتم في اختيار الأستاذ الجامعي، أبعد ما تكون عن هذا الهدف. فلماذا؟
إن التعيين في وظيفة أستاذ الجامعة، غالباً ما يخضع لمعاييرنا وقيمنا ونظرتنا الاجتماعية، تعيين غير علمي، قائم أحياناً على الأهواء والمحسوبية، تعيين تقليدي يغلب على صاحبه طابع التلقين والتجريد النظري الذي يتعذر تحليله، مما يعتبر متخلفاً عن العلم والبحثية فيه، فلا يعطي العلم أو العلم فيه، وقيمته الجامعية التي تتناسب طردياً مع وظيفته الجامعية، أنه بأمانة وصدق تعيين مضاد ويخضع كثيراً لاعتبارات غير علمية دقيقة؟! لماذا؟
لا جدال؛ أننا في تعليمنا الجامعي، وصلنا إلى طريق وعر المسالك وشائك... ولم نعد نباهي الدنيا ونفاخر بمستوى الخريجين الأردنيين، وفي وضع المعايير العلمية العالية، لمعالجة هذه المسألة، والتدهور في المستوى الذي وصلنا إليه... نريد أن نقول بصراحة: أنه لا علم بلاعلماء أصلاً، والذي يصنع العلم وتقدمه وتميزه هم العلماء. لقوله سبحانه وتعالى «إنما يخشى الله من عباده العلماء» ويقول رسولنا الكريم: «العلماء أمناء الله على خلقه». ويقول «العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء، وورثتي وورثة الأنبياء، وأنظر إلى هذا الحديث، كيف يحدد خصيصة من أهم ما يميز العالم حين يقول: لا يزال الرجل عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم، فقد جهل، وهو قول يقطع بأن العلم طريق يسار عليه، وليس نهاية يوصل إليها، فالعلم منهاج قبل أن يكون نتيجة مقطوعة بصوابها.
لقد تفوقت الولايات المتحدة، ودول غرب أوروبا وشرق آسيا وجنوبها علمياً وتكنولوجيا وتعليمنا، لأنهم جهزوا جامعاتهم بتقنيات حديثة، وشبكات اتصال متعددة الجوانب، وهم بهذا كانوا أسبق إلى التخلف مبكراً، من النظرة التقليدية العتيقة في مفهوم التعليم وأصوله.
لقد آن الأوان؛ لوزارة التعليم العالي ولمؤسساتها التعليمية، التابعة لها، أن تدرك وتعترف أن العلم الحديث – صانع العصر وحضارته – هو قمة الرقي التعليمي، وآن لها أن يصبح التعليم الجامعي في قمة السلم الاجتماعي وقائده، ولتدرك بوضوح وقبل فوات الأوان، أن التكنولوجيا فوق الإدارة، وإن العلم فوق التكنولوجيا، وأنه مباشرة صنو السياسة. فالعلم الجامعي عمل قيادي، عمل سياسي بالدرجة الأولى، ولو أنه تخطيط حيث السياسة تنفيذ. وليكن شعار جامعاتنا الحكومية والخاصة، وصولاً إلى التعليم الجامعي العالمي من اليوم، هو ببساطة «العلم فوق الجميع» وهو شعار تطبقه فعلياً، إن لم يكن حرفياً بالضرورة كل دول العالم المتقدمة علمياً وتربوياً ومسلكياً وخلقياً.
في الجملة؛ لا بد لوزارة التعليم العالي، أن تطلب «العلم والتكنولوجيا» أنّى وجدا في العالم، بتفتح عام، وفي عدم انحياز علمي على غرار عدم انحيازنا السياسي، وهذا يتطلب منها الإكثار من البعثات العلمية، لمختلف الاختصاصات وفي شتى الاتجاهات وعلى أوسع نطاق، والإطلاع على أهم المعايير التي نجحت في اكتساب شهرة كتصنيف عالمي في مجال التربية والتعليم، وبغيره يتهدد تعليمنا الجامعي، ويصبح محدود الأفق والسعة، وقليل الخبرة الخارجية.
هذه بعض المشكلات الكامنة في نظامنا الجامعي، وأن وضع الحلول لهذه المشكلات، لا تكفي لضمان نجاح مرافق التعليم العالي، في أداء رسالته على أكمل صورة، ما لم تتوافر أهم مقومات نجاحه وهو وجود الأستاذ الكفؤ، المحب لمهنته، المستقر نفسياً، المقدر مادياً وأدبياً.
كما أن وزارة التعليم العالي، مطالبة بأن تعيد النظر فيما تدرسه من تخصصات في ضوء الإحتياجات العملية. فإن إتساع نطاق المعارف والدراسات وانتشار ظاهرة التخصص الدقيق في عصر العلم والتكنولوجيا، يستلزمان بالضرورة إعادة النظر في بعض الكليات والمناهج الجامعية... وأخيراً لا يسعنا إلاَّ أن ندعو لوزارة التعليم العالي وللعاملين في حقلها الجامعي بالسداد والتوفيق، لمعالجة ما آلت إليه الأمور الراهنة في جامعاتنا.