في وداع جورج طرابيشي

اختتم جورج طرابيشي صمته الطويل بالرحيل. يجري غالباً إسقاط المواقف والكتابات الأخيرة للراحل على أعمال عمر طويل من الترجمة والنقد والبحث. فيؤخذ الكل بالجزء. كاتب ومفكر مثل طرابيشي لا تجوز مقاربته من خلال الابتسار والاختزال والأحكام المسبقة.

 

 

تعدد الاهتمامات التي شغلت الكاتب يجعل من العسير إنصافه في بضعة سطور. سيرته التي لخصها بنفسه في عدد من المناسبات والمقابلات الصحافية، وإنجازاته في مجالات الترجمة والبحث الفلسفي والتراثي، وأعماله عن عدد من المثقفين العرب، نقداً وتدقيقاً وعرضاً، من حسن حنفي ونجيب محفوظ وحنا مينا وصولاً إلى مجموعته في «نقد نقد العقل العربي»، تجعل من المجحف وضعه في خانة واحدة يسهل التصويب عليها.

 

 

وإذا كان من الممكن إعلان الاختلاف الكبير معه في رؤاه السياسية الراهنة التي تناولها خصوصاً في كتابه «هرطقات» بجزءيه، وحديثه عن العلمانية والطائفية والديموقراطية كمعطيات جوهرية أو تلامس هذه الصفة، إلا أن ذلك لا ينفي بحال أهمية الإرث الغني والمتنوع الذي تركه طرابيشي في مجالات عدة مثل نقد التراث والتعامل معه تعاملاً يختلف جذرياً، على ما نرى، عما فعلت المدارس التي احتكرت التطرق إلى التراث في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى أيامنا هذه.

 

 

عليه، قد يكون من الأجدى في المساحة المتاحة هذه تناول جانب واحد من عمل المفكر الراحل ونقصد موقفه من التعامل مع التراث الذي تجسد في مجموعته «نقد نقد العقل العربي» والكتب التي تفرعت منها مثل «المعجزة في الإسلام» و»من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة».

 

 

قدّم طرابيشي في هذه المجموعة درساً مهماً لكل من يرغب في تناول التراث العربي- الإسلامي وهو تعرية أساليب من التزييف والتدليس لدى عدد ليس بالقليل من الكتّاب العرب. ذهب بعيداً في كشف النواحي الاستنسابية والاعتباطية في استحضار ما يخدم أيديولوجية الباحثين المعاصرين وأفكارهم المسبقة التي يرغبون في تمريرها وترويجها من خلال اللجوء إلى ما قاله السلف في الفلسفة والكلام والفقه والترجمة. وليس سراً أن ما قيل قبل حوالى الألف سنة ما زال عميق الأثر حتى في صفوف مدعي العلمانية واستخدام المناهج المعرفية الحديثة.

 

 

قد لا يكون طرابيشي بعيداً، من حيث الاعتقاد السياسي، عن عدد ممن نقدهم لناحية تقديم الهم الثقافي المحض على المعنى الاجتماعي حتى لتبدو الماركسية بتفسيراتها للعلاقة بين الثقافة والاجتماع والسياسة، هي أضعف مكونات أدواته الأبيستيمولوجية التي راكمها على مدى ستة عقود من العمل في الحيز الفكري.

 

 

لكن ذلك لم يحل دون تقديم جورج طرابيشي خدمة كبرى للثقافة العربية المعاصرة، في ما يجوز تسميته «مفارقة طرابيشي». فالتزامه الدقة والحرص على البحث عن المصادر الأصلية ومقارنتها والسعي في تفنيد السياقات التي وضع فيها الباحثون المعاصرون استخدامهم للتراث العربي – الإسلامي، انتهى بتوجيه طرابيشي ضربة قاضية، من حيث لا يدري ربما، إلى مرحلة استمرت من أواسط السبعينات لاتجاه فكري عربي سعى إلى إحياء التراث كممر إلى الحداثة والمعاصرة. لقد كشف زيف هذا المنهج وادعاءاته التي تقلع في اتجاه مخالف للهدف الذي تعلنه، فتروج للظلامية فيما هي تزعم التنوير وتحاول استغلال جهل القارئ وتسعى إلى خداعه بينما تتحدث عن العقلانية.

 

 

سعى طرابيشي جهده إلى فرض احترام الكاتب للقارئ ووقف استخدام التراث في الصراعات الأيديولوجية المعاصرة باعتبار التراث نتاج مرحلة مضت ورؤية معينة إلى العالم لا يصح تعميمها من خارج سياقاتها.

 

 

أما محاكمة الكاتب الراحل سياسياً بسبب مواقفه من أحداث راهنة، فهي مثل كل محاكمة من هذا الصنف، لن تصدر أحكامها قبل وقت طويل.