الشَّاعر والمقهى

بين الشِّعر والمقهى صداقة مزمنة، بين الشعراء والمقاهي علاقة يومية. ليس كلّ الشعراء من رواد المقاهي، لكن الذين يفعلون يقيمون مع المكان علاقة عصيَّة على الفهم والتفسير. نوع من الإدمان لا شفاء منه، تغدو الطاولة صديقة، كذلك الكرسي وفنجان القهوة ومنفضة السجائر ومشهد المارة من خلف الزجاج، يبدو الخارجُ أشبه بشاشة سينمائية تبثُّ وقائع فيلم طويل لا ينتهي يُدعى: الحياة.

 

 

ارتياد المقهى يومياً وتحوّله مقصداً وطقساً لا بد منه ولا غنى عنه، يمنحان الشاعر هامشاً من الحرية والتسامح قد لا يوفرهما المنزل أو المكتب، هناك الغرف المقفلة والخصوصيات الحميمة، هي ليست أقل شأناً لكنها مختلفة. هنا (في المقهى) الرحابة والتنوع، لا أحد يختار أحداً من رواد المكان سوى الذي يشاركه الطاولة، البقية وجوه تتغير وتتبدل وتختلف اختلافَ الأهواء والأمزجة. يذهب الشاعر إلى المقهى ذهاباً إلى الحياة، أو إلى فصل آخر من فصول الحياة، العلاقات فيه مختلفة جذرياً عن علاقات الأسرة وزمالة العمل ولياقات المجتمع وضروراته. وصداقاته غير صداقات المدرسة والجامعة وسواها من أمكنة الاجتماع الإنساني.

 

 

في المقهى تكون في قلب الحياة ومتفرجاً عليها في الوقت نفسه، بمرور الأيام تغدو خبيراً في قراءة الوجوه والنَّاس: هذا عاشق على أهبة العناق، تلك فتاة في أول الحُبّ، ذاك متقاعد يستعيد أياماً خلت، وهؤلاء شبان تشتعل رؤوسهم حماسة لا شيباً. أشكالٌ وأنماطٌ من النَّاس والعلاقات يرقبها الشاعر من مقعده بين قصيدة وأخرى، أو بين موعد وآخر، كأنه في منزلة بين منزلتين، شريكٌ في الحياة الدائرة من حوله ومتفرج عليها في الوقت عينه. لذا نزعم أن نصوص الشعراء من رواد المقاهي أكثر ليونة وطرواة لأنها أكثر حياة.

 

 

ليس المقهى كما يَخال بعضهم مجرد مكان لِتزجية الوقت وتصريف الأيام، لعله كذلك لبعضهم، لكنه للشاعر مختبر تختمر فيه التجربة، أبوابُه لا توصد، تجاربه على الملأ ونتائجه أيضاً، كم من القصائد كُتبِت فيه، كم من الروايات والمسرحيات والنصوص، وقبل ذلك كم من قصص الحُبّ وُلِدَت وانتهت على طاولاته، كم من الضحكات والدمعات وباقات الزهر، كم من الدسائس والخيانات، باختصار: كم من الحياة؟

 

 

لا يتسع المجال لتفسير الدور الثقافي/الاجتماعي، والسياسي أحياناً، الذي يلعبه المقهى في حياة النَّاس، ولا لِشرح المتغيرات التي أصابته منذ نشوئه في إسطنبول العام ١٥٥٤م. على يد السوريين حكم الحلبي وشمس الدمشقي. فقط إشارة سريعة من وحي مقاهي شارع الحمرا البيروتي التي عرفت أزمنة عزّ وأوجاً ذهبياً، مثلما عرفت أزمنة خفوت وشحوب: قراءة الشِّعر هنا لها مذاق خاص، لا سيما الآن، على مرمى رصاصة من الخراب العربي العظيم، تصير الكلمة برهان حياة والتحلّق حول قصيدة بمثابة انحياز إلى إرادة الحياة المنتصرة لا محال على الموت. هنا نفهم أكثر قول درويش: «هزمتكَ يا موت الفنون جميعها». الفن، وفي مقدمته الشعر، انتصار لإنسانية الإنسان، والفارق الأجمل بينه وبين بقية الكائنات.

 

 

تغيّرت حال المقهى تَغَيُّرَ أحوال الدنيا، ولئن فرض زمن النارجيلة الأجوف طقوسه على كثير من الأمكنة وناسها، ظلّت فسحاتٌ تقارع وتكافح لأجل أن يبقى للمكان روحه ومعناه، ومنها تلك المقاهي التي تُوَسِّع مساحاتها بالقصائد، ويتحلَّق روادها حول نار الشِّعر التي لن تنطفئ مهما عصفت ريحٌ وادلهمَّ أفقٌ وبدا أن الكلمة الولّادة في وحدةٍ موحِشة.

 

 

في البدء كان الكلمة وإلى دهر الداهرين.