أربعة كيانات جديدة شمال الأردن

انشغلنا كثيرا، خلال الأيام القليلة الماضية، بتفسير الانسحاب المفاجئ للقوة الجوية الروسية من سورية. وذهبنا مذاهب شتى، من دون درس حقيقي بشأن ما تذهب إليه الأمور، وما تقود إليه الوقائع. فعقارب الساعة السورية واضحة وفق رؤية القوى العظمى، إذ تذهب بكل جلاء إلى مخطط الفيدرالية. ولعل إعلان الأكراد المنفرد عن نظام فيدرالي في المناطق التي يسيطرون عليها شمال سورية، هو الاختبار المبكر للخطة التي تم على أساسها التوافق الدولي، وتحديدا بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وهي المفسرة للانسحاب الروسي.
بالنتيجة، أصبح احتمال تقسيم سورية أمرا واردا. ما يعني، وفق المخطط الروسي-الأميركي، أربعة كيانات جديدة شمال الأردن. وهذا ما يعنينا استراتيجيا وسياسيا في نهاية النهار. وهو يقود إلى الاستنتاج الأخطر؛ أي دخول المنطقة في مرحلة جديدة، وفق قواعد اشتباك مختلفة، وفاعلين محليين جدد، واختلاف عميق في حجم أدوار القوى العظمى ونوعيتها، مقابل تفاقم المحاور الإقليمية وازدياد حدة الاشتباك والاستقطاب بينها. وللأسف، لن يكون ما ذهب مما سمي حقبة "الربيع العربي"، هو الأسوأ.
المؤشرات الدالة على هذه التوافقات الدولية لم تعد غامضة، بل معلنة تصب جميعها في فكرة "الفيدرالية السورية"، وعمليا تحويل فكرة الفيدرالية إلى خطة للتقسيم، ستؤول في النهاية إلى أربعة كيانات تشمل إنشاء دولة للعلويين في الساحل تحافظ على المصالح الروسية، وفي مقدمتها القواعد العسكرية والغاز؛ ودولة للأكراد في الشمال؛ وأخرى للدروز، في المقابل يشكل السُنّة دولتهم في وسط وجنوب وشرق سورية. وإذا كانت كل المؤشرات والوقائع تقود إلى هذا المخطط، بما فيها الانسحاب الروسي المفاجئ، فإن الأمور لن تسير بهذه السهولة، بل إلى نوع آخر من الحرب الأهلية التي قد تضيف كيانا خامسا نتيجة لتحالف القوى المتطرفة، وبقيادة تنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة"، ما يفقد سورية التاريخية الكيانية الواحدة، ويحولها إلى مستنقع حقيقي من الفوضى والإرهاب والاقتتال والمخدرات.
هذا السيناريو الأسوأ ربما لن يمرره السوريون إذا ما استطاعوا اليقظة في اللحظة الأخيرة، فقد فاتهم الكثير على مدى السنوات الماضية.
وحدة الأراضي السورية والدفاع عن تماسك الدولة السورية، هما مصلحة أردنية بحتة، ولا يجوز أن يبقى الأردن في موقع المراقب لما ستؤول إليه الأحداث. صحيح أن الأردن دولة صغيرة ومحدودة الموارد، ولا تتيح لها كتلتها الحيوية لعب أدوار كبيرة في صراعات من هذا النوع، لكننا اليوم في أدق لحظة في هذا الصراع، ولا مجال للاستمرار في صيغة الغموض الإيجابي التي قد تكون خدمت المصالح الوطنية الأردنية خلال السنوات الماضية. فعلينا أن نتنبه إلى أن المنطقة دخلت في قواعد جديدة لإدارة الصراع، ويكاد المرء يجزم أن جميع اللاعبين الإقليميين والدوليين غيّروا أدواتهم وأعادوا تموضعهم من جديد، بما في ذلك إسرائيل التي بقيت تتوارى خلف كل ما يحدث في المنطقة، ثم أعادت الدفء سريعا إلى خطوطها مع موسكو، وربما تدخل قريبا على خطوط الاشتباك الجديدة، وعلى الأرض.
أربعة أو خمسة كيانات جديدة على الحدود الشمالية الأردنية، تعني عمليا ضربة عميقة للتوازنات ومصفوفة المصالح التي دشن عليها الأردن المعاصر، ومصادر قلق وتهديد جديدة لم يألفها الأردن. ومع كل ذلك، يمكن للأردن أن يفعل شيئا ما في اللحظات الأخيرة بعيدا عن المعادلات التقليدية التي أدير على أساسها الصراع، من أجل هدف واحد، هو حماية وحدة سورية.