عرب بلا لغة

قبل سنوات لفت انتباهي صديق فرنسي تعلّم العربية وكتب بها الى ما سماه عبقرية الابجدية، وقال ان كلمة نعم بالعربية والتي تعني الامتثال والقبول تنتهي بسكون على حرف الميم بحيث لو اطبق الناطق بها شفتيه لبقي صامتا الى الأبد، بعكس حرف لا الذي يفتح الفم الى أقصى ما يستطيع، فقلت له مداعبا ان احد شعرائنا قال ان حرف « لا « يشبه المشنقة لهذا نتجنبه، وهناك من البشر ما يستحق ان يكون اسمه نعم لأنه لم يقل لا في حياته، وقد لا يتثاءب كي لا يظن الناس بأنه يقولها، بعكس شاعرنا القديم الذي امتدح رجلا لم يقل لا الا في تشهده واضاف لولا التشهد لكانت لاؤه "نعم"!

ولم اكن اتصور ان هناك شعوبا تحسدنا على لغتنا لمجرد سماعها جِرسها وايقاعاتها الصوتية، وأذكر ان شاعرا ايطاليا كان يجلس في احد مقاهي روما وسمع شبانا من العرب يتحاورون باللغة العربية، فقال لهم بالايطالية انه لم يفهم كلمة واحدة مما قالوه لكن اصوات الكلمات اوصلت اليه الكثير من المعاني.

هذه اللغة الامبراطورية التي قال عنها جاك بيرك انها تنفرد بين لغات العالم بما تحمله من وميض رسولي هي الان في خطر، فالناطقون بها بدأوا يخلعونها كما لو انها ثياب قديمة ويرطنون بها، فهي بالنسبة لبعض محدثي النعمة عورة يجب اخفاؤها، ولا يدرك هؤلاء الضحايا انهم ينتحرون معنويا وينقرضون حضاريا وثقافيا رغم انهم احياء بالمعنى العضوي فقط، ومجرد امعاء تسعى كالثعابين!

اكثر من عشرة آلاف لغة انقرضت في القرن الماضي، وقبل اسابيع أُعلن رسميا انقراض اللغة الصومالية، فاللغة حين تُهجر ويتمّ استبدالها ويخجل الناطقون بها من بلاغتها وجمالياتها قد لا تجد لها مكانا في المتحف .
ولو عرف العرب كم ينفق الفرنسيون من اجل حماية لغتهم لأصابهم الدوار رغم ان الفرنسية بألف خير وهي شعار وعنوان لمنظومة الفرانكفونية التي تضم اكثر من خمس وخمسين دولة!