عندما تغني الطفولة العربية

ليس البرنامج ترفيهيا فحسب، بل هو تربوي ويصب في المعالجة الاقليمية والدولية لآفة التطرّف والارهاب. كيف ذلك؟ بتنشئة الاجيال الطالعة على التنافس الحر والفن والثقافة، لكي لا يملأ الطفل ذهنه الطري بافكار الكراهية والالغاء، بل بافكار المحبة والبناء. بهذه الروح تابعت مع ملايين البشر مسابقة الأطفال الغنائية The Voice Kids التي انتهت دورتها الاولى عربيا، قبل ايام، ولذا، أود استنباط الافكار التالية:

1. هنالك طفولة مشتتة، متشظية في العالم العربي، وأعني هنا الأطفال من العراق أو سوريا، يقولون أنا من العراق، ولكني قادم (قادمة) من بلد عربي آخر. وممّا يدمع العين الألم الذي يبرز في ثنايا أصوات هؤلاء الأطفال الهاربين من أصوات المدافع والرصاص والتفجيرات. ويحضرني هنا «الطفل فادي» الذي جاء مهجراً من العراق مع ذويه، وكان يصحو بعد منتصف الليل باكياً مذعوراً، إذ أنّ ذكرى ليلة الإخراج القسري من الموصل قد صارت ذاكرة يومية لديه... وفي مسارح الم بي سي ، طفولة تصرخ بأنّ لديها حقا بعيش كريم وسعيد. وهذا الحق مقدّس من الخالق نفسه.

2. الأغاني القديمة والتراثية جزء من الحضارة والتاريخ، وهي جزء من ذاكرة الكبار وأحاسيسهم ومشاعرهم. وهي حالات لا تتكرّر دائماً، لكن من الجميل، مع دعوة منظمة «اليونسكو» للحفاظ على مواقع أثرية وتاريخية، كجزء من التراث العالمي، أن نحافظ على الفن الخالد كجزء من تراثنا الشرقي والعربي، قبل أن تغزوه رياح العولمة والأغاني الخالية من اللحن الجميل والكلمة العربية القوية والصافية. يحضرني هنا مقابلة للراحل منصور الرحباني، حين سأله مذيع لماذا فشل «الرحابنة» من انتاج فيروز ثانية، فقال بنبرة الواثق الجريء: سؤالك خطأ سيدي ففيروز حالة لا تتكرر. نحن لم نفشل لكنّ هنالك أشخاصا صعب تكرارهم. برنامج الأصوات يستذكر الأغاني «التي تستحق الحياة».

3. الأردن، البلد الآمن والمستقر، الذي وصل إلى المنافسات العالمية في عدة أمور، ومنها مؤخراً اتحاد كرة القدم العالمي، وجوائز الأوسكار حيث سطعت كوفية حمراء فوق سجاد أحمر طويل. لكن، أين مواهب أطفالنا وتميّزهم في هذا البرنامج؟ أليس حرياً ببلد الأمان أن ينتج ويصدر مواهب طفولة ويرعاها؟ والسؤال المحوري: ما دور مناهجنا المدرسية في الاعتناء بمواهب الأطفال بعيداً عن التلقين والحفظ غيباً والتعلم من أجل العلامة؟ أليس حرياً بنا أن نتعلم من أجل الحياة ، عبر الفن والثقافة؟

إنّ أجواء الابداع قد تخرج من أجواء الظلم والفقر والحرمان، كما الحال مع أطفال العراق وسوريا وغزة وغيرها من بلاد الجروح والانقسامات. لكنّها حتماً يجب أن تخرج من أجواء العدالة والسلام والطمأنينة، وهذا ما علينا أردنياً أن نعمل على تعزيزه واظهاره وتصديره للعالم.

4. دور أساسي على المدرّب والأهل والمربي، في تشجيع الطفل، وفي حثه على الاستمرار ومواصلة المشوار حتى لو بدا متعباً وشاقاً وطويلاً ومليئاً بالمطبات والعثرات. وهنا الحديث عن التربية لا بالخطابات الرنانة ، بل بالقدوة الحسنة ومثال الحياة الصالح، وبحسن السيرة وبالهدوء أمام العواصف، وبالتدرّب على المنافسة الشريفة ، والمثابرة إلى حدّ العناد لتحقيق الاهداف المشروعة. وكذلك في تقبل الفشل والإخفاق بروح رياضية عالية. نعم الأهل والمربون وكل أصحاب المسؤولية هم أهم قدوة للأجيال الناشئة.

5. الأشقاء، ثمة من يفرح لفوز شقيقه وثمة من يحزن لفشله. الشقيق المرافق لأصحاب المواهب يدل على أنّ ثمة خيراً ما زال موجوداً. وهو المحبة في أسمى تجلياتها وفي كل ظروف الحياة. أحياناً كثيراً نتألم لعيون الآخرين وحزنهم من نجاحنا من جهة وفرحهم من اخفاقنا من جهة أخرى. الأشقاء في البرنامج يغيرون المعادلة ويعيدون الطبيعة والفطرة إلى سابق عهدها، وهو شبيه بما قاله القديس بولس قبل مئتي قرن: «افرحوا مع الفرحين وابكوا مع الباكين».

في النهاية هي مسابقة... من ورائها ارباح للمنظمين، ولكنّها غنية بالمعاني والعبر، وأهمها في هذا العصر، تعبئة وقت الطفل بما يبني لا بما يهدم، وبما ينشر الفرح لا بما يعيث فسادا.