المثقفون و التطرف

ليس المقصود بهذا العنوان الحديث عن دور المثقفين في مواجهة التطرّف، ولكنّ المقصود هو الحديث عن انغماس كثير من المثقفين في التطرّف، وهي ظاهرة بالغة الخطورة، إذ الأصل أن لا يجتمع التطرّف والثقافة في أيّ شخص، لأنّ الثقافة نقيضٌ للتطرّف، ومتى اجتمعا فإنهما يهددان أمن المجتمع بشكل خطير، لأن تفعيل الأدوات الثقافية في إثارة الفتن والنزاعات الداخلية كفيلٌ بتأجيج هذه الفتن والنزاعات ومنحها الشرعية. غير أنّ كثيراً من المثقفين العرب أو ممّن هم محسوبون على عالم الثقافة أخذوا ينزعون في الآونة الأخيرة نحو التطرّف، سواءً كانوا متدينين أو علمانيين، يساريين أو يمينيين، قوميين أو قُطريين أو غير ذلك. فقد تحوّل كثير من هؤلاء المثقفين إلى (مفتين) لا يتورّعون عن الحكم بإهدار دم من يخالفهم في آرائهم، وأصبحوا يجدون الذرائع لدعم مواقف زعماء أو تنظيمات أو طوائف لقتل العشرات بل المئات والآلاف ومئات الآلاف من العرب في هذه الأرض العربيّة أو تلك.

وإنني لأستغرب من مواقف بعض كبار المثقفين في البلدان العربيّة وكتاباتهم التي تدعو إلى تصفية هذا الفريق أو هذه الطائفة أو هذا الحزب وإزالته عن وجه الأرض، وهم يعلمون علم اليقين أن سفك الدم العربيّ تحت أي ذريعة هو خارج أيّ اعتبار ثقافي ولا يؤدي إلى أي صورة من صور الاستقرار، بل يفتح أبواباً جديدة لخراب المجتمعات وتواصل سفك الدماء وتدمير الأمّة وإغراء الأعداء بغزو الأرض العربيّة.
إنّ سلاحيْ الحريّة والحوار هما السلاحان الوحيدان اللذان ينبغي للمثقف أن يؤمن بهما ويدعو إليهما في الخلافات التي تنشأ داخل الأمّة، وهما أنجع السبل لتحقيق الأمن والاستقرار وتمهيد الطريق للتطوّر والتقدّم والنهوض بالمجتمع وتوفير واقع أفضل لأبنائه.
ولست أرى أنّ من حقّ المثقّف أن ينكر على الآخرين حقّهم في الانتماء إلى أيّ فكر سياسيّ أو ديني أو غيره ما لم يكن هذا الفكر هدّاماً ويدعو إلى الفتنة، ولكن من حقه أن يختلف مع أي فكر آخر على أن يعبّر عن اختلافه معه بالوسائل الثقافية والحضارية وبأدوات الحوار والإقناع، لا بالدعوة إلى استئصاله وإبادة معتنقيه.
إنّ أهمّ رسالة من رسائل المثقّف هي الحفاظ على أمن المجتمع وتماسكه والإسهام في تطويره ورقيّه، وهي رسالةٌ تتعارض تماماً مع نزعات التطرّف والدعوة إلى الإبادة العرقية أو الطائفية أو الحزبيّة أو أي شكل من أشكال الإبادة التي أصبحنا نرى بعض المثقّفين يدعون إليها ويؤجّجون نارها ونار الفتنة الطائفية والعرقية والدينية والحزبيّة.