حين تتهشم المرايا



لقد جهدت جهدك ليقال: ذكي وألمعي, وقد قيل وجهدت جهدك ليقال شجاع وقوي, وقد قيل. وجهدت جهدك ليقال: وجيه وسرىّ, وقد قيل: وجهدت جهدك ليقال مؤمن وتقي, وقد قيل. وجهدت جهدك ليقال مخلص ووطني, وقد قيل. ولعلك ان اعطيت عمر نوح أن تظل تجهد جهدك في أن يقال عنك ويقال. فهلا التفت من امرك الى حقيقة أو مآل. وهلا ادركت ان أعين الناس لا ترفع احداً وموازينهم لا تخفض احداً, وان مراياهم لا تعكس الا مراء, ولا تظهرك البتة على حقيقة نفسك, بل تخدعك عنها, وأن لحظة صدق واحدة مع الذات كفيلة بجعل معرض المرايا الذي ارتهنت حياتك فيه اطراً فارغة صماء, ونوافذ مفتوحة على سراب مديد وتيه بعيد.


* * *
ولعلك تتساءل, بعد, كيف تؤول المرايا الى هشيم تذروه الرياح, وكيف يعود الخصيم المبين الى قبضة التراب التي خلق منها, والى اصل نشأته الارضية, فإنه, حينئذ, تنتصب الموازين القسط, الرافعة بحق الخافضة بحق للعالمين. يوم تشقق الارض عنهم سراعاً, ويخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر, يوم يفر المرء من أخيه, وأمه وأبيه, وصاحبته وبنيه, وفصيلته التي تؤويه, ولا يعرف حميم حميماً.
* * *
إن استحضار هذا كله وحسن تمثلّه والاعتبار به, يهشمان مرايا النفاق التي نصطدم بها أنّى توجهنا في واقعنا المعجب الذي استغرقته المظاهر, وما من أحد منا الا وتعرض له لحظة صدق تفتح عينيه وتوقظ بصيرته على بعد المنتأى بين ما يتراءى منه للناس وبين ما يعلمه من نفسه. فهل الى أن نستمسك بصدق هذه اللحظة من سبيل؟

* * *
يقول شاعر في بيان شرط الحال وحكم الوقت:
أنا وأنت
وكل من يعيش وهو ميت
وكل من يضحك هذا المقت.
وكل من ينفخ في حريق هذا البيت.
جميعنا نبيع في المزاد طهر الصوت
لكني يا صاحبي لو شئت
لجزت نهر الصمت
انا.. وأنت
* * *
وبعد, فقد قيل أن البلاغة هي معرفة الوصل والفصل, وقيل أنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال, وقيل إنها هي الايجاز, فعسى أن نكون ظفرنا من هذا كله بمقدار, وأن لا نكون فيه عن الحق ناكبين.