صناعة النموذج الأردني

قبل عقد من الآن، كانت تركيا تطرح نفسها كنموذج يمكن أن تقلده دول المنطقة. وعرضت تركيا مزيجاً من الانفتاح السياسي والديمقراطية؛ والنمو الاقتصادي الواعد الجاذب للاستثمار؛ والمصالحة الوطنية بالتفاوض على السلام مع الانفصاليين الأكراد؛ والسياسة الخارجية الودودة التي وصفت بأنها "صفر مشاكل مع الجيران". وكانت المحصلة سيادة السلم الاجتماعي والازدهار. 

لكن تركيا خسرت تلك الفرصة الآن. وكانت وصفة التراجع هي الاستبداد السياسي وقمع المعارضين والحريات؛ وتسييس الدين؛ واختيار أطراف في العداوات الإقليمية؛ وحسابات خاطئة استعدت الأكراد، وأضعفت الجبهة الداخلية، وفتحت المجال لعمل مختلف أشكال التطرف والعنف. وكانت المحصلة عكسية: نزع الاستقرار والسلم في الوطن، وارتباك السياسات والعلاقات الإقليمية والدولية، والإضرار بالاقتصاد.

ولم تكن تركيا هي الدولة الوحيدة التي جرّتها أحداث المنطقة وأفقدتها التوازن. فأينما نظرنا، ثمة دول دمرتها الفوضى وأخرى يعتمد استقرارها الظاهري على رعب المواطنين وشدة قمع السلطات. ومع ذلك، تمكن الأردن من صنع حالة فريدة من التوازن وسط الجوار المشتعل تماماً من حوله. وبالمقاييس العامة، يُحسِن الأردن الملاحة في الخضم الصعب بعون جملة من العوامل.

لعل الخصوصية الأردنية الأبرز هي نوع العلاقة الفريد بين الأردنيين بشكل عام وبين المؤسسات والأجهزة صاحبة القوة في الدولة. فعلى الرغم من التوترات العارضة، يُجمع الأردنيون دائماً على احترام الجيش وأجهزة الأمن وتقدير أدوار هذه المؤسسات في صيانة أمن البلد وسلامة مواطنيه. والفريد في هذه العلاقة أنها لا تقوم على التخويف وادعاء الود، وإنما على عواطف شعبية حقيقية ولسبب موضوعي: إن هذه المؤسسات الوطنية لا توجه بنادقها أو أدوات قوتها إلى مواطنيها ولا تشتري احترامهم بالعنف والترويع.

مع عدم ادعاء الكمال الذي ما يزال مسعاه طويلاً، أصبح الأردنيون يتخلصون في العقود الأخيرة من عقدة "الخوف من الشرطي". ومع الخروقات التي ما تزال تحدث هنا وهناك، فإن هناك عملاً على تصحيح العلاقة بين المواطن ورجل الأمن، وضبطاً لإغواء السلطة بحيث لا يرى رجل الأمن نفسه حُرَّاً في التعالي على مواطنيه والقسوة في معاملتهم بحصانة. وقد صنعت مشاهد تقديم رجال الأمن المياه للمحتجين وتنظيم مسيراتهم صورة مشرقة للأردن، إضافة إلى الأهم: تلافي الصدام والسير بالمراكب إلى موانئها دون إضرار باحترام الدولة والقانون. وفي المقابل، أظهر الأردنيون أنهم على قدر المسؤولية، فلم يمسوا الخطوط التي يعني تجاوزها المخاطرة بسلامة وارتياد الطرق التي بلا عودة.

في الأردن، لم يَعد اسم دائرة المخابرات يرسل القشعريرة في الأطراف، ولم تعد هناك حتمية لمرور المواطن على مكاتب التحقيق بسبب رأي يقوله أو المشاركة في احتجاج صغير. وقد لمس الأردنيون في العقود الثلاثة الأخيرة اتجاهاً نحو توسيع مساحة التعبير، والتفريق بين الانتقاد الإيجابي المنطلق من الوطنية، وبين الاتجاهات العدوانية التي يمكن أن تلحق ضرراً حقيقياً بأمن البلد ومواطنيه. ويختلف هذا التعامل الحضاري عن الصورة المألوفة لأجهزة المخابرات التي تجلس للمواطن في فنجان قهوته وتشعره بأنها كلية الوجود، وتشككه بأخيه وجاره، وتسلمه لخوف دائم من كلمة خاطئة يقولها فيذهب وراء الشمس.

وفي الوقت نفسه، لا يتهاون هذا الجهاز المحترف الذي يحظى بإشادة المختصين في رصد الإرهابيين والمنطوين على سوء نية حقيقي تجاه أمن الأردن واستقراره، في الداخل والخارج، كما يُلاحظ من إحباط الكثير من المؤامرات الإجرامية التي حاولت استهداف الأردن قبل تنفيذها. وفي المجمل، تعمل مؤسسات الجيش والأمن والمخابرات في الأردن بما يجب أن تعمل به المؤسسات الوطنية: العمل من أجل حماية المواطن وليس استهدافه. وهو الشعور الذي يعبر عنه الأردنيون عندما يألمون ويغضبون لدى أي مساس بأبنائهم من منتسبي هذه الأجهزة والمؤسسات.

التوازن الدقيق بين التسامح وهيبة الدولة، والتمييز الحكيم بين الاحتجاج المحق وبين العمل العدواني، وتحييد التناقضات بين المواطنين وإبراز المشترك، هي الصناعة التي تذهب بالأردن إلى التميز وتعينه على اجتياز البحر المتلاطم. ولو يستطيع البلد فعل شيء أكثر براعة في شأن الاقتصاد، والثبات على عقيدة أن الإصلاح السياسي والتعددية والحريات، وتكاملية العلاقة بين المواطن والدولة هي أفضل حتماً من العكس، بل وضرورة وجودية، فإنه المؤهل لتحقيق ما فشلت فيه تركيا والآخرون: أن يكون النموذج الذي يستحق أن يُتبع في الإقليم.