مطاردو الصحافة.. سيُهزمون

تتواصل في تركيا الحملة الضارية الرامية الى إسكات اي صوت مُعارض لحُكم وقرارات حكومة حزب العدالة والتنمية, في شكل يتجاوز كل الاساليب والآليات الديمقراطية التي تتوسلها الدول العصرية, المُستندة الى حكم القانون وسيادة الدساتير ودائماً في المحافظة على التعددية وضمان حرية التعبير وحق الاختلاف وخصوصا الالتزام بحق الجمهور في المعرفة والوقوف على الحقيقة، ما بالك أن الاحزاب المشروعة والجمعيات وهيئات المجتمع المدني الشرعية, صاحبة حق في امتلاك الصحف وباقي وسائل الاعلام, واي مُخالفة ترتكبها, يكون حسمها عبر مؤسسة القضاء التي يُفترَض انها»كذلك» في دولة تدّعي أنها ديمقراطية كتركيا, ويصل ساستها واحزابها الى السلطة عبر صناديق الاقتراع, حيث يقول الجمهور كلمته وتبقى مسموعة ومحترمة, الى ان يُصار الى تبكير الانتخابات نتيجة فقدان الأغلبية او هزيمة أمام اقتراح بحجب الثقة وغيرها من الآليات المتعارف عليها في الدول الديمقراطية.. الراسخة التقاليد والاعراف والقضاء المستقل.

كل هذا يبدو الان في تركيا وكأنه بات من الماضي, او انه في طريقه للانقراض, بعد أن وصلت حملات إخراس المعارضة (كل مُعارضة) للحزب الحاكم وزعيمه, الذي يبدو انه لم يعد قادراً على سماع اي انتقاد وخصوصاً بعد أن سقطت كل رهاناته الاقليمية والمشاريع السياسية, التي ظن انه قادر على تمريرها في الاقليم وصولاً الى العام 2023 بما هو «مئوية» اعلان اتاتورك للجمهورية (1923)، حيث «حَلُمَ» السلطان اردوغان, بأنه سيُتَوُّج فيه مسيرته السياسية ويدخل التاريخ التركي من اوسع ابوابه كـ «ثاني» مؤسس للجمهورية, ولكن من البوابة «الاسلاموية» وليست تلك «العلمانية» التي جاء بها مصطفى كمال اتاتورك على انقاض دولة الخلافة.
ما علينا..
يومية «زمان» التركية، التي تُوزِع اكثر من مليون نسخة يومياً كـ(اشتراكات) ناهيك عمّا تبيعه في الاكشاك والمكتبات (دع عنك نسختها الانجليزية المرموقة.... زمان توداي)، باتت منذ اول من أمس الجمعة, «مُصادَرَة» من قبل السلطات الرسمية التركية، ما يعني في قراءة اخرى ان «آخر» صوت إعلامي مُعارض، قد تم «اسكاته» وربما يُزَج معظم العاملين فيها في السجون, بتُهَم عديدة لا تقل في جوهرها عن تلك التي وُجِّهت الى رئيس تحرير الصحيفة, جان دوندار, وهي «الخيانة والعمالة والتجسس» (التهمة ذاتها وُجِّهت لمدير مكتب الصحيفة في العاصمة انقرة أردم غول ايضاً).. ولأن المحكمة الدستورية العليا «امرت» باخلاء سبيلهما، مُقلّلة ان لم نقل رافضة لهذه التهمة التي تمت فبركتها فقط لأن الصحيفة نشرت صوراً لأسلحة ومعدات حربية مخبأة في شاحنات تابعة للاستخبارات التركية, كانت مُرْسَلَة في العام 2014 الى الجماعات الارهابية في سوريا تحت ستار انها مساعدات انسانية واغاثية، ما وضع المحكمة الدستورية نفسها, تحت «قصف» الثنائي الغاضب اردوغان ورئيس وزرائه داود اوغلو، بالغمز من قناتها والمسّ بصدقيتها وحيادها، لكنهما أرادا لـِ «صحيفة الزمان» ان تصمت وان يُطارد عاملوها, وان يذهب بعضهم الى السجون, فيما يُرمى الآخرون في الشوارع، كما كانت حال كثيرين من الصحافيين والاعلاميين الذين زاد عددهم عن الألف وخمسماية صحفي رهن الاعتقال او قضاء محكوميتهم بِتُهم سياسية واخرى لا يعلمها الا الله تعالى اسمه، ناهيك عن شراء معظم وسائل الاعلام وبخاصة تلك المرئية التي تم تهديد اصحابها اما بالصمت او الولاء, تحت طائلة التشريد والمُصادرة وغيرها من الاساليب التي أخذت تركيا سريعاً, الى مربع دول العالم الثالث, حيث لا صحافة حقيقية ولا اعلام حُرّ ولا حريات مُصانة ولا تعددية ولا صوت يعلو على صوت النفاق والولاء المُصطَنَع والرياء.
سقطت تجربة حزب العدالة والتنمية في وقت أسرع مما تكهن كثيرون, وكان الأداء السياسي الذي ظن كثيرون انه تجربة غير مسبوقة وريادية في منطقة لم تغادر مربع الانقلابات والاستبداد والفساد، فاذا بها تحصد الفشل والخيبة في اكثر من ملف وخصوصاً في ملف القبول بقواعد اللعبة الديمقراطية التي تعني - ضمن امور اخرى - ضمان حق الأقلية في الدفاع عن آرائها ومواقفها, ضمن الأسس والآليات الدستورية والقانونية، وخصوصاً تلك السلمية الرافضة للعنف والارهاب، وهي صفة يبدو انها ستُلازم جماعات الاسلام السياسي في المنطقة, اياً كان «اللبوس» او الخطاب, الذي يدّعون تبنيّه, وهي ان الديمقراطية «في نظرهم» ليست قابلة للاستعمال سوى مرة واحدة فقط، وهي المرة التي يصلون فيها الى السلطة, ثم يديرون ظهورهم ويُقفِلون اعينهم ويَسدّون آذانهم, عن اي نداء او صوت او دعوة او تحذير او نصيحة.
إغلاق صحيفة «زمان» ذات الشعبية الكبيرة والانتشار الواسع والمكانة المرموقة التي تحتلها في الفضاء التركي وخصوصاً الاعلامي, هو بمثابة «سهم»مُرتَد على الذين اصدروا قرار الاغلاق والمصادرة، لأن التاريخ - قديمه والحديث - عَلّْمنا ان مُطاردي الصحافة وباقي وسائل الاعلام هُزموا وسيهزمون في النهاية, واستقلالية الاعلام كما يعلم الديمقراطيون هي مصلحة للجميع, وحرية الاعلام هي من حرية المجتمع وحرية الشعوب, وهي مسألة محسومة لصالح الجماهير وضد الاستبداد وكمّ الافواه، ولن تكون تركيا استثناء في هذا الشأن.. والأيام ستُخبرنا بالمصير الذي سينتهي اليه قامعو الصحافة وباقي وسائل الاعلام.