كيف يتحرّر العرب من أزمة «الفكر الانعزالي»؟

منذ نعومة أظفارنا ونحن نتعلم أن مقومات القومية العربية تقود إلى الوحدة العربية، على اعتبار أن مفهوم العمل العربي المشترك كان مكوناً للإطار المرجعي لأبناء الجيل الذي ولد في مطلع الخمسينات وعاش بانتماء على الأرض العربية. ونلاحظ أن هذه المقومات وتلك المفاهيم وضعت الناطقين بلغة «الضاد» على مسار التكامل والوحدة أو هكذا كانت اقتناعاتنا وما زال الأمر الذي علا من سقف طموح جيل عاصر الانكسارات والانتصارات في الستينات والسبعينات.

 

 

غير أن التطورات اللاحقة في العقدين التاليين وسنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أثبتت أن وحدة المستقبل والمصير وأرض الحضارات والتاريخ المشترك واللغة والدين، مقوّمات قد تشكل في واقع الأمر «المد القومي» على الأقل من الجانب النظري، لكنها غير كافية لتحقيق ما يمكن تسميته الريادة والسيطرة على العلاقات الإقليمية والدولية، والتي تمكّن العرب من أن يكونوا وحدة قوية على غرار الاتحاد الأوروبي مثلاً. فقد تغاضى الأوروبيون عن عوامل الفرقة بين دولهم، وركزوا على عامل المصلحة القومية الذي يعتبر محور العلاقات السياسية الدولية في القرن الحالي، بعد تراجع الاعتبارات الأيديولوجية مع سقوط المعسكر الاشتراكي وتفكّك الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينات.

 

 

ويمكن القول إن التكامل الاقتصادي كان نقطة انطلاق للتقارب والتفاهم بين دول الاتحاد الأوروبي، وأُجريت عملية توظيف ذكية للميزة النسبية الاقتصادية التي تتمتع بها كل دولة، ما ألقى بظلال إيجابية على الأرضية المشتركة في العلاقات السياسية، وعلى رغم استمرار الدونية بين كثير من اقتصادات هذه الدول، إلا أن المحصلة كانت لمصلحة المواطن الأوروبي.

 

 

وهذا الأمر سيكون مطروحاً بقوة أمام المواطن البريطاني في الصيف المقبل، عندما يذهب الى الاستفتاء على بقاء بريطانيا أم انسحابها من الاتحاد الأوروبي، وفي المجمل ستبقى التجربة الأوروبية مثالاً غير مسبوق في تاريخ التجارب الوحدوية الناجحة.

 

 

أما على مستوانا العربي، فكان من المفترض أن نسبق الأوروبيين في التوحد، لكن منطقة الشرق الأوسط كانت دائماً محور نزاعات على بسط النفــــوذ من جانب الدول الكبرى، واستخدمت الكثير من الحكومات والشعوب العربية في تأجيج هذه الـــنزاعات. لكن الغزو الأميركي للعراق في 2003 أثبـــت فشل التدخل المباشر، ما جعل فكرة الحرب بالوكالة تسيطر على فكر صانع القرار في الغرب.

 

 

أو بعبارة أخرى، حدث ما يمكن تسميته «اتفاق جنتلمان» بين دول المنطقة والولايات المتحدة تحديداً على إدارة الصراع بفكر اللعبة الإلكترونية، أي اللعب من «بعيد لبعيد» من دون أن تخسر جيوش أوروبا وأميركا جندياً واحداً. وفي الوقت نفسه، تمَّ توظيف ممنهج لعوامل أخرى يمكن اختصارها في عبارة «توطين الصراعات»، بمعنى «دعهم يحاربون أنفسهم بأنفسهم»، على أن تظل الخيوط بأيدي صاحب المصلحة. وبرز على الساحة وفي كتابات المحللين والمراقبين، تعبير «حروب الجيل الرابع».

 

 

وهكذا وللأسف الشديد، سقط بعض الشعوب العربية في الشرك لأن المخطط رسم وأدار اللعبة «بذكاء». ودعونا ندقّق النظر قليلاً في المنطقة، لنلاحظ ذلك عندما قامت ثورات شعبية أطاحت بعض النظم العربية مع نهاية 2010 في تونس، وفي كانون الثاني (يناير) 2011 في مصر، ثم في ليبيا واليمن وسورية، حيث تمت دراسة احتياجات هذه الدول ومشكلاتها واستغلّ المخطط نقاط ضعف النظم، وتمت تغذية اتجاهات التغيير، وهي كانت في الواقع متّفقة شكلاً مع رغبة شعوب هذه الدول وإرادتها. ومن هنا بدا الأمر طبيعياً وحقيقياً، لكن تم استغلال الموقف وتوجيهه عكس أهدافه.

 

 

من التحليل السابق، نكتشف أن هناك استغلالاً من بعض الأطراف للأوضاع العربية لتشكيل منظومة للمنطقة العربية، من سماتها عدم الاستقرار وتصاعد الاستقطابات وتنامي ظاهرة الإرهاب، ليس فقط في الدول التي وقعت فيها الثورات، فالإرهاب طاول دولاً لم تتأثر بمد ثورات «الربيع» العربي، ما يؤكد ثلاثاً من الحقائق:

 

 

أولاً – هناك محاولات للاستفادة من زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط من جانب أطراف إقليمية مثل إيران وإسرائيل، وأطراف دولية مثل الولايات المتحدة.

 

 

ثانياً – هذه المحاولات تشكل مؤامرة محكمة، مع سبق الإصرار والترصد، لاستمراريتها ووقوف مدبّريها في وجه أي جهود عربية للاحتشاد لبعث الأمة العربية من جديد.

 

 

ثالثاً – ما زال الإعلام الغربي يدعم أفكار وتوجهات تقسيم دول العالم العربي إلى دويلات، بعد أن كان عاملاً رئيسياً في تكريس الفكر الإرهابي وداعماً للعناصر المنفذة له، وفي مقدمها ما يسمى تنظيم «داعش».

 

 

خلاصة القول أنه ما زالت أمام العرب فرصة للخروج من أزمتهم الحالية بالالتقاء على كلمة سواء بإعلاء المصلحة المشتركة على النظرة الانعزالية، لأن الخطر محدق ويهدّد الجميع بلا استثناء. فهل يستطيع القادة العرب في مجلس الجامعة العربية المقبل تناول سبل تجاوز الأزمة؟