تغريد حكمت:عدالة السماء مطلقة، اما عدالة الأرض فنسبية
اخبار البلد-
يوسف عبدالله محمود
قصص الطموح الانساني تتفاوت في عظمتها وقدرة اصحابها على ان يقفزوا الى المعالي قفزاً سريعاً تقف وراءه عصامية لا تعرف المستحيل في الحياة.
من هؤلاء العصاميين القاضي الدولي العين تغريد حكمت التي قهرت المستحيل. فكانت أول قاض (امرأة) في الاردن، ومن ثم اول قاضٍ عربية في القضاء الجنائي الدولي. (المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في رواندا).
بين يديّ كتاب يحكي سيرة هذه السيدة التي تنتمي الى اسرة احترف بعض كبارها مهنة المحاماة دفاعاً عن العدالة في الارض. الكتاب يتحدث عن «قصة طموح» تغريد حكمت معرجاً على محطات حياتها منذ ان كانت تلميذة في مدارس الزرقاء الى أن وصلت الى ما وصلت اليه من منزلة اهّلتها لتكون قاضياً دولياً مرموقاً. اعد الكتاب عمر حمد نزال العرموطي.
تقدم تغريد حكمت تعريفاً جامعاً لمفهوم القضاء تضعه امام القضاة الشباب في بلدها ليستنيروا به. «القضاء فن وفهم وليس علماً فقط. ومما لا خلاف فيه ان كفاءة القضاة تتفاوت، فمنهم القوي ومنهم الضعيف، وازاء هذا التفاوت تتطلب العدالة ان يكون القائم بها من القدرة بحيث يميز ما هو حسن مما هو احسن، لذلك نقول ان القضاء فهم وفن». المرجع السابق (قصة طموح) ص 11.
تستشهد تغريد حكمت بمقولة لِ»اناتول فرانس» ذات دلالة عميقة، وفيها يقول «انني لا أخش القوانين الرديئة اذا طبّقها قُضاة عُدْول». وفي تعليق لها على هذه المقولة تضيف: «مهما كان القانون جامداً، لا يوجد نص لا يحتمل التأويل او التفسير». «للقاضي كافة الحقوق إلاّ ان يعتذر بانه خُدع». ص 12.
وفي حديثها عن صفات القاضي تشير الى ضرورة استقامته ونزاهته وبعده عن السياسة «لأن السياسة اذا دخلت حرم القضاء خرجت منه العدالة». وفيما يتعلق باستقلاله تضيف: «استقلاله يكون من ثلاث زوايا، عن الحكومة – عن الافراد- عن المحكمة التي تستأنف اليها احكامه. وبالرغم من ان محاباة المستضعفين احساس انساني شريف، لكنه خطأ عظيم».
تغريد حكمت كانت اول قاضٍ امرأة في الاردن. وخلال عملها عدّلت الكثير من التشريعات الخاصة بالمرأة مثل اجازة الامومة التي كانت شهراً حيث تم تعديلها حتى (90) يوماً.
تتحدث هذه السيدة العصامية عن اهوال الحروب، فتقول «ان الحرب هي مستنقع الاجرام الدولي، ولا يمكن ان تكون انسانية حتى ولو كانت مشروعة ودفاعية. مشروعيتها قانونية واخلاقية، اما آثارها فواقع ملموس وأليم». ص 61.
بدوري اتساءل: أليس المشهد العربي الذي نراه اليوم خير دليل على ما تشير اليه. هذه الحروب المستعرة هنا وهناك في ارجائنا العربية والاسلامية. ألم يكُن بالامكان تلافيها لو خلصت النوايا فتعاطفت مع انسانية الانسان.
«لما كانت الحروب تبدأ في عقول الناس ففي عقولهم تُبنى حصون السلام». ومن المفارقات العجيبة ان الانسان هو الذي ابتدع اسباب الحروب، وهو ذاته الذي اكتوى بنارها» ص 61.
اختيرت تغريد حكمت عضواً في المحكمة الجنائية الدولية في رواندا لمحاكمة مجرمي الحرب هناك وقد أدّت مهمتها على اكمل وجه.
لم يحل مرض السرطان الذي اكتشفته انها مصابة به لدى عودتها الى عمان دون إكمال هذه المهمة الجليلة في المحكمة الجنائية الدولية في روندا. قهرته بارادتها وصمودها واصرت على ان تعود الى افريقيا لاكمال رسالتها، وهذا ما كان.
حظيت هذه السيدة العصامية بوسام الحسين للعطاء المتميز في حقل القضاء والعمل العام من الدرجة الاولى. قلدها اياه جلالة الملك عبدالله الثاني المعظم.
تغريد حكمت حياتها مسيرة عطاء في اكثر من مجال. قبل القضاء عملت في التدريس، خاضت معترك الحياة من اوسع أبوابه. تقول وهي تتحدث عن ضرورة الثقة بالقضاء «اذا فقدنا ثقتنا بالقضاء فقدنا كل شيء، وانتقلنا من عالم تسوده قوة القانون الى عالم يسوده قانون القوة وشريعة الغاب، ارجو الا نصل الى ذلك».
بصدق أقول: ان هذه السيدة الطموحة قد اثبتت ان المرأة قادرة ان تخدم الانسانية بكل طاقاتها وان تتبوأ أعلى المناصب اذا ما وجدت بيئته تشدّ من ازرها.
تغريد حكمت رفعت رأس الاردن عالياً في المحافل الدولية. وفيّةلبلدها على الدوام، ترنو دوماً الى عدالة تسود هذا العالم الذي مزقته وتمزقه الحروب التي يذهب ضحيتها الابرياء. تُرى متى ينعم عالمنا بالسلام؟ متى تغادرنا الكراهية وتعمر المحبة قلوبنا.
تغريد حكمت تحية لك من الاعماق حكمتك القيم الانسانية على الدوام.