الأمور بخواتيمها

يتوقع أن يقر مجلس الأعيان اليوم، الأربعاء، مشروع قانون الانتخاب كما ورد من النواب، وليكفّن للأبد نظام "الصوت الواحد" الذي قوّض مسرح السياسة منذ عقدين، ويفتح (القانون الجديد) كوّة باتجاه خوض تجربة القائمة النسبية المفتوحة.


"النواب" أقرّ مشروع القانون من دون تعديلات جذرية، رغم حال الشد والجذب التي شابت مداولات اللجنة القانونية النيابية، وكادت تسمم أجواء التفاؤل النسبي في البلاد.

فالملك الذي وعد شعبه قبل نحو ثلاث سنوات بسن ترسانة تشريعات محفزّة لعملية التحديث، بما فيها قوانين الأحزاب والانتخابات البلدية واللامركزية، رمى بثقله وراء ذلك الوعد، ليمسح ذكريات المراوحة والاستعصاء في بال العديد من أبناء شعبه، نتيجة اعوجاج مسارات الإصلاح سابقا.

مصفوفة القوانين جاءت بـ"أنصاف الحلول"، ومعادلات أقرب الى التراضي والقبول الوطني، ضمن تغيرات تدريجية تحمل أكلافا سياسية منخفضة، عكست روحية جديدة تماشت مع إصرار القصر على تثبيت معادلة استمرار الحكومة لأربع سنوات مشروطة بثقة "النواب"، في ضوء سلسلة تعديلات دستورية مع تنامي المطالب بالإصلاح، بعد أن صمد الأردن أمام عواصف التغيير العربي. ولأن هذا المسار يعكس أيضا روح الأوراق النقاشية الملكية التي رسمت طريق المستقبل السياسي وحدّدت مهمات كل سلطة، بما في ذلك ملف الحكومة النيابية.

قانونا الانتخابات النيابية واللامركزية يمنحان فرصا أكبر لتمثيل التنوع والتعددية في المجتمع عبر هوية جديدة جامعة، قد تكون أقل جمودا وحصرية. وهي قابلة للتطويع مستقبلا في حال لاحت في الأفق متغيرات جذرية في بنية التحالفات الدولية والإقليمية تتطلب إعادة تموضع، بأقل كلف داخلية ممكنة.
الانتهاء من إقرار هذه القوانين -أقلّه على الورق- يعني أيضا أن الأردن الرسمي حقق غالبية الوعود التي قطعها على نفسه أمام الدول المانحة، وتحديدا الولايات المتحدة وأوروبا، مع أنها تراجعت عن المواقف العلنية التي كانت تطرحها مطلع العام 2012، لتقترب أكثر فأكثر من مفاضلة الأمن والاستقرار على حساب إصلاحات سياسية سريعة قد تدفع البلاد صوب المجهول. حزمة القوانين هذه تساهم في دعم جهد الأردن في نيل منح وقروض كدولة تسير فعليا على خط الإصلاح السياسي.
عودة إلى نصف الكأس الفارغ، فإن السؤال هو فيما إذا كانت هذه القوانين ستجمّل الواقع السياسي في زمن الردة عن مسار شمولية الإصلاحات السياسية، وسط تراجع مناسيب الحريات العامة والإعلامية، واتساع فجوة الثقة بين الحكومة والشعب في إقليم يتدحرج صوب المجهول؟
بالتأكيد لا! فالبيئة السياسية الحالية طاردة لحلم التغيير، بسبب الهوة بين الواقع والطموح، ونفوذ التركيبة المحافظة لمؤسسات الدولة عموما، في بلد بات قانون مكافحة الإرهاب مرجعية أساسية في تعامل السلطة مع المواطن. وخير مثال على ذلك قيام قوات الدرك بفض اعتصام لستة أحزاب أمام البرلمان مع بدء مناقشة مشروع قانون الانتخاب، واعتقال عديد المشاركين.
هل ستتحول البلاد بين ليلة وضحاها إلى واحة ديمقراطية وتعود الحياة إلى شرايين المشهد السياسي المتكلس، والذي دفن معه إمكانية خلق طبقة سياسية جديدة ورجال وسيدات دولة من طراز رفيع كما كانت الحال قبل عقود؟ الجواب أيضا: لا؛ في غياب تيارات سياسية تحمل فكرا واضحا مؤيدا لمفاهيم الدولة المدنية أو الليبرالية السياسية والاقتصادية مثلا؟
وهل مؤسسات الدولة الرسمية التي أُضعفت خلال العقدين الماضيين، وأُفرغت من طاقات مبدعة، قادرة على تطبيق التغييرات السياسية المنشودة بسرعة؟ الجواب: لا.
هذا التشاؤم مرتبط بعوامل موضوعية محلية متداخلة، منها فراغ سياسي ممتد داخل الدولة، وقوة تأثير المنظومة البيروقراطية المتشابكة مع نخب سياسية واقتصادية في دولة ريعية. أضف إلى ذلك ضعف حضور الأحزاب غير الإسلامية، وثنائية الفقر والبطالة، وحال الخوف الشعبي من التغيير نتيجة خراب الجوار؛ سورية واليمن وليبيا، وزعزعة استقرار مصر.
على أن الأمور بخواتيمها. وثمّة تفاؤل بتحقيق الحد الأدنى من آمال الشعب وطموحاته، ومراكمة الإنجازات. لذلك، يتوقع أن يشكّل قانون الانتخاب -الذي سيدخل حيز التنفيذ بعد توشيحه بالإرادة الملكية- عتبة صوب التنمية السياسية العصرية عبر بوابة البرلمان، وخوض تجربة القائمة النسبية المفتوحة. هذه القائمة بحد ذاتها أكثر تقدما مما يمكن أن تقترحه قوى سياسية واجتماعية وأعيان ونواب. فهذا القانون يُدخل إلى قاموس الانتخابات النيابية والنقابية والاتحادات العمالية والطلابية كلمة "التمثيل النسبي" ويشرعنها. وبذلك تتراجع هيمنة لون حزبي/ دعوي واحد على هذه المنصات الديمقراطية، وتفتح الطريق أمام التعددية والتنوع.
اليوم، تبدو ترسانة القوانين الميسرة لأجواء الإصلاحات السياسية حاضرة من الناحية النظرية، وقابلة للتنفيذ عند الحاجة؛ سواء عندما يقرر القصر مواعيد استحقاق الانتخابات البرلمانية والبلدية واللامركزية، أو تتجاوب الحكومة بديناميكية مع مفاجآت ملف التسوية القادم، وما يبطن من ترتيبات سياسية وسط اختلاط أوراق التحالفات العربية والإقليمية والدولية بدءا بالبوابة السورية وإمكانية إشراك قوات برية لإنهاء وجود تنظيم "داعش"، أقله عسكريا، وانتهاء باندثار حلم قيام دولة فلسطينية مستقلة.
جميع هذه المحاور تضغط مباشرة على العمق الاستراتيجي للبلاد. كما تؤثر على سياسة الحياد الإيجابي التي تتبعها المملكة حيال غالبية الملفات، مدعومة بسلسة تحالفات استراتيجية وسياسية وعسكرية تقليدية مع الولايات المتحدة، بموازاة روابط مميزة مع روسيا منذ تولّي فلاديمير بوتن مقاليد الحكم. وكذلك علاقات مع غالبية دول مجلس التعاون الخليجي توفر حدا أدنى من الدعم المالي لاقتصاد الأردن المتأزم.
لكن الأوضاع قد تتغير وبسرعة.
بحسب التفاهمات الأميركية-الروسية، سيتبلور خلال ثمانية عشر شهرا شكل المشهد السوري الجديد، وتقسيماته الجغرافية والعرقية، ودور نظام الأسد في المرحلة الانتقالية، وكذا حملة إنهاء وجود "داعش" هناك. وتلك الزوابع الجيو-سياسية ستؤثر على الأردن.
على البوابة الغربية، لا بوادر لحل سياسي يفضي إلى إقامة دولة مستقلة متصلة جغرافيا. بل هناك مزيد من الاستيطان وانتهاز أي فرصة لحل القضية في زمن انهيارات الصف العربي.
إزاء هذه الأخطار الخارجية وتشكل محاور وتحالفات جديدة، ترتفع مناسيب القلق الشعبي وتبقى المعادلة الداخلية والإصلاح السياسي كلمات السر وطوق النجاة.
صحيح أن منظومة القوانين التي تشكل روافع للعمل السياسي والبناء الديمقراطي ما تزال بعيدة عن طموح عديدين، وبخاصة من مؤيدي الدولة القائمة على أسس المواطنة والمؤسسات. لكن قانون الانتخاب يوفر -رغم تحفظات عديد قوى حزبية ومدنية- فرصة لمشاركة الأحزاب في عملية الانتخاب بهدف تعزيز الإصلاح من داخل "السيستم" وليس من خلال المقاطعة. كما يخلق عتبة نحو التعددية في البرلمان مع مساحة أوسع للشباب والنساء، إضافة إلى شخصيات قد تكون قادرة على تشكيل تيارات سياسية-اقتصادية-اجتماعية لا يمكن تجاهلها. والأمل أن يشارك حزب جبهة العمل الاسلامي في الانتخابات هذه المرة لضمان ما لا يقل عن 15 مقعدا في البرلمان. فالمقاطعة أضرت بالمؤسسات الرسمية حال الأحزاب.
يبقى أن يحدد صاحب القرار مواعيد الاستحقاقات الانتخابية، ولتشرع الحكومة في تحضير الإجراءات اللوجستية والفنية المعقدة، وسط قناعات لدى شخصيات مؤثرة وقوى حزبية بضرورة تغيير تشكيلة الهيئة المستقلة للإشراف على الانتخاب، بما يمنحها الصلاحية لإدارة أهم وأخطر مرحلة في الانتخابات. وبمقدور الحكومة الاستجابة على الأقل لهذه المطالب، كشهادة حسن نوايا.
وبعد الانتخابات، يبقى بصيص أمل في إمكانية تحسين مكونات الطبقة السياسية ورفع كفاءة الجهاز السياسي والإداري في إدارة شؤون الدولة، بحيث يحاكي كفاءة الجهاز الأمني، ويغلق الفجوات التي تعتري منظومة الأمن الوطني الشامل.
 
لننتظر ونرَ.