لماذا لا يراجع الإسلاميون تجاربهم؟

حينما تُثار قضية مراجعة الإسلاميين لمساراتهم الدعوية والسياسية، وتقويم جملة تجاربهم، يتعلل البعض بأن الحركات الإسلامية لا سيما هذه الأيام تتعرض لحملات شرسة من التضييق والملاحقة والقمع، خاصة بعد إجهاض الثورات العربية في مصر وتونس واليمن...، وتحويل الربيع العربي إلى خريف مشتعل ودام.

فحوى ذلك الاعتراض على تلك الدعوات المطالبة بمراجعة تجارب الإسلاميين وتقويمها من قبل مفكريها وعلمائها ورموزها، غالبا ما يحتج أصحابه بأن الوقت ليس مناسبا ولا ملائما للقيام بتلك المراجعات، فثمة أولويات في الفكر والعمل، يأتي في مقدمتها التصدي لمشاريع مواجهة الحركات الإسلامية وتحجيم وجودها، وضرب قوتها وحضورها في المجتمعات الإسلامية.

مع وجاهة ذلك الاعتراض في ظل الظروف الحالية التي تمر بها غالب الحركات الإسلامية، إلا أن ما يتحاشى كثير من الإسلاميين الاعتراف به بوجه عام نفورهم من ممارسة النقد الذاتي، وعدم رغبتهم بالقيام بأي مراجعات جادة وحقيقية لسياساتهم ورؤاهم وخياراتهم، وغالبا ما يتم التغافل عن الأخطاء وطي صفحاتها.

ولعل الأخطر من ذلك كله الجنوح العارم في أوساط تلك الحركات في حالة قمعها أمنيا، إلى استدعاء فقه الابتلاء و استحضار أدبيات المحنة، باعتبار أن ما يجري إن هو إلا سنة من سنن الدعوات الثابتة، فلن تمكن الحركات الإسلامية حتى تبتلى وتمتحن، ولا بد من غربلة الصف المؤمن، ليخرج منه كل خبث ونتن، ويبقى فيه الأطهار الأخيار.

ذلك التصور حينما يستولي على تفكير قادة الحركات الإسلامية وأعضائها، فإنه يسلمهم إلى حالة من غياب الوعي، يتم التعويل فيها على مفاهيم دينية مجردة، يواقعها الخطأ من جهة فهمها وإنزالها على الواقع معا، ويتم معها التغافل عن دراسة الأسباب والمقدمات المفضية إلى بلوغ تلك الحالة من ضرب الحركة الإسلامية واستهدافها، لأن ما جرى لا بد من وقوعه كأمر قدري محتم، فالابتلاء سنة من سنن الدعوات، والامتحان قدر الدعاة المصاحب لهم قديما وحديثا.

لو تخيل المرء ما وقع في مصر بعد ثورة 25 يناير، على صورة أخرى مغايرة لما وقع، فأرخى العنان لخياله ليرسم مسارا للأحداث، تنأى فيه جماعة الإخوان في مصر عن تسلم أي منصب رسمي، وعيا منها بخطورة ذلك، وبناء على رؤية إستراتيجية ثاقبة، ترى أن المرحلة الانتقالية ما بعد الثورة مرحلة حرجة وقلقة، فمن الحكمة التامة ابتعادهم بالكلية عن تولي أي مسؤولية رسمية، وبقاؤهم في صفوف المعارضة، ولتدير شؤون الدولة أطراف وقوى أخرى غيرهم، كيف يمكن في هذه الحالة تخيل استهدافهم، ملاحقة وتضييقا وقمعا ومحاكمات جائرة؟.

لو أن مفكرا استراتيجيا مسموع الكلمة داخل الجماعة، استطاع أن يقنع قيادة الجماعة بضرورة الابتعاد عن الترشح لأي منصب رسمي في المرحلة الانتقالية، وتمكن في الوقت نفسه من كبت جماح حالة الزهو والانتشاء المستولية على الجماعة بعد تحقيقها فوزا كاسحا في الانتخابات البرلمانية، فاقتنعت الجماعة برؤيته، فلم تترشح لمنصب الرئاسة، هل كان لهذا السيناريو الذي يجري حاليا أن يقع؟.

حينما ينظر إلى الأحداث على أنها مقدمات وأسباب تفضي إلى نتائج من جنس تلك المقدمات، فإن ثمة مسؤولية على من يقدر تلك المقدمات، ويباشر تلك الأسباب، ولا يصح حينئذ التعلل بالأقدار، وإرجاع الأمر إلى مفاهيم دينية، كالابتلاء والامتحان، باعتبارها سنة ثابتة من سنن الدعوات، لأن احتمالية الوقوع في أخطاء بشرية نتيجة سوء تقدير المواقف، والتوهم بأمور ووعود خادعة، والبناء على توهمات وانطباعات زائفة، نتيجة عدم الخبرة السابقة في شؤون السلطة والحكم، وارد جدا فمن أخطأ تلك الأخطاء القاتلة فلا بد أن تصيبه نتائج أخطائه، ويرتد عليه سوء تقديره.

ذلك المنهج في نقد الذات وتقويمها منهج قرآني، علمه الله للصحابة الكرام وهم في معمعة المواجهة، ووصف ما وقع منهم في بعض مواقعهم بأوصاف شديدة وقاسية (فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) وهو ما يتحاشى كثير من الإسلاميين إطلاقه على بعض تجاربهم المعاصرة، ولو أعملوا منهج القرآن فرجعوا إلى تجاربهم، فلربما تبين لهم حينئذٍ أن جزءا كبيرا مما أصابهم يرجع إلى التوصيف القرآني الذي قيل لمن هم أعلى منهم شأنا، وأعمق تدينا {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ..}.