الأردن.. استمرارية النموذج والدور

بينما توهمت كثير من الأطراف بالقدرة على الحسم في سوريا، بدا الأردن في حديثه عن الحل السياسي معزولاً في وسط تحالفات غاضبة ومتوترة، ولئن كانت التكلفة العالية التي تحملها الأردن في المرحلة السابقة عبرت عن قدرته على الصمود في وجه الضغوطات السياسية والانفراد بقراره المستقل، فإن ذلك لم ينعكس في أداء سلبي تجاه التطورات الأخيرة، وتحركت عمان بصورة قيادية للتفاهم مع طرفي النقيض في الأزمة السورية واستثمرت في ذلك الثقة التي حازتها من الأداء العقلاني والمتوازن في فترات المد والجزر المتعددة سابقاً، وكان ذلك الطريق الصعب الذي خاضته المملكة لتصل إلى المرحلة التي يستطيع فيها الملك أن يضع الحل السياسي أمام الجميع، وأن يكون مرة أخرى الطرف الذي يحمل مسؤولية التعامل مع نتائج التجاذبات والتفاهمات الأمريكية – الروسية حول مستقبل سوريا، وفي المرحلة القادمة يتوقع من الأردن أن ينطلق إلى ترميم حالة الاستقطاب العربي المرعبة التي أنتجتها فكرة الصراع على سوريا.

الحل السياسي لا يعني في جوهره تحيزاً للنظام السوري، أو اسقاطاً لمشروعية الثورة في سوريا، ولكنه يعكس رؤية أردنية خاصة بطبيعة المنطقة وظروفها الراهنة، وحتى لو لم يتوفر مخرج فوري من دوامة العنف، فإنه سيسهم في تباطؤها لتحقيق أهداف أكثر أهمية وأولوية في هذه المرحلة، وبعد صراع مرهق حول الأولويات الخاصة بجميع الأطراف أتت تصريحات الملك الأخيرة في البيت الأبيض لتضع الأولوية الأردنية في إطار دولي غير خلافي بين روسيا والولايات المتحدة والأوروبيين وهو القضاء على داعش ضمن عبارة ملكية أعادت بناء الموقف على أرضية التوافق « المحصلة فإن داعش عدونا جميعاً».
الدور الأردني لم يعد اليوم مقتصراً على الحدود الشمالية وتأمينها، ولا حتى في التعامل مع ملف اللاجئين السوريين، ولكن مع رصيد مرتفع من الثقة في الرؤى الأردنية للتعاطي مع الوقائع السورية، فإن الملك تحدث عن الجانب العراقي مؤكداً على ضرورة استمرار الدعم الأمريكي لاحتواء داعش في العراق، مؤكداً على ضرورة «ضمان وحدة وسلامة العراق بمشاركة جميع مكوناته»، وربما من المتوقع أو المحتمل، إن لم يكن من الحتمي أن يتدخل الأردن في جولة أخرى من العمل السياسي بين أنقرة وطهران لإقناع الطرفين بالتخفيف من المناورات السياسية غير المنتجة، خاصة مع وجود استثمارات سياسية محلية في كلا البلدين تجاه الأكراد من جهة والشيعة في الجهة الأخرى.
يسترجع الأردن في هذه الأيام مرحلة الخمسينيات والقرار الشجاع الذي أعلنه الملك الحسين لمصلحة سوريا ووقوفه معها ضد احتمالات غزو تركي في تضحية كبيرة بالوعود التي أطلقتها بريطانيا والولايات المتحدة مع حلف بغداد، ومع أن العلاقات الأردنية – السورية بقيت دائماً غير مستقرة ومتوترة في كثير من المراحل، إلا أن ثبات المعتقد القومي الأردني أجهض محاولات الخصماء العرب الذين يتبدلون من وقت إلى آخر لاستقطاب الأردن تجاه مواقف من شأنها الإضرار بوحدة وسلامة الأقطار العربية، ففلسفة الأردن تقوم على تعزيز التكامل العربي وترفض مبدئياً وجذرياً استهلاك القدرات والطاقات العربية في صراعات ثنائية، ويبدو أن منهج الملك عبد الله الثاني في هذا الإطار أخذ يتسم بكثير من الوضوح والمباشرة على الرغم من تكلفته العالية التي جربها الأردن مسبقاً مع موقفه في حرب الخليج الثانية وتمسكه بضرورة الحل العربي – العربي وممارسته الأمل المشروع في تحقيقه.
في القمة الأردنية – الأمريكية الأخيرة وضمن العناوين اللافتة بخصوص الشأن السوري، إلا أن الملك يصر على التذكير بالوضع الفلسطيني وضرورة استئناف عملية السلام التي تكفل للفلسطينيين فرصة الخروج بدولة مستقلة، فالوضع الراهن يمثل مكسباً اسرائيلياً يضمن تماسك المجتمع الاسرائيلي وقدرة ساسته على الاحتفاظ بتجانس بنية الحكم في اسرائيل، بينما هو وضع يصعب من حياة الفلسطينيين ويعمق من الخلاف على المستوى الفلسطيني، وهذه النقطة التي تغفلها، وربما عمداً، الكثير من الدول الراعية للسلام في المعادلة الفلسطينية.
يعرف الملك أن المسألة الفلسطينية ليست من أولويات الرئيس أوباما، وأنه الرئيس الأمريكي لا يمتلك الطموح الذي حمله كلينتون للخروج باتفاق فلسطيني – اسرائيلي في الهزيع الأخير من فترته الرئاسية الثانية، ولكن الإصرار على وضع فلسطين على جدول أعمال اللقاء في البيت الأبيض يأتي لمجموعة من الأسباب المهمة بالنسبة للأردن وفلسطين على السواء.
أولا: يؤكد ذلك على مركزية القضية الفلسطينية لدى الأردن، وأن الأردن يعتبرها مسؤولية كبرى لم يحاول أن يتهرب منها أو يخفف من عبئها عليه في أي وقت.
ثانياً: يريد الأردن أن يفهم العالم أن القضية الفلسطينية والحلول غير المنصفة وغير العادلة التي تبنتها الدول الكبرى هي جزء من مشكلات المنطقة الراهنة، وأن للإحباط العربي في القضية الفلسطينية دوره في المرحلة الأخيرة وفي أزمات تونس ومصر وليبيا واليمن وأي مكان آخر.
ثالثاً: يتطلع الملك لفرصة متاحة في حالة دخول السيدة هيلاري كلينتون للبيت الأبيض، ويجتهد الأردنيون في وضع ملامح ومعالم أساسية لتوصيف الوضع القائم في فلسطين والحلول المرضية بخصوصه، وذلك ليبدأ في مرحلة مبكرة العمل على استقطاب الاهتمام الأمريكي للتدخل بجدية ومسؤولية لإحياء عملية السلام.
الأردن يريد منطقة مستقرة وهذه غايته اليوم، ولا توجد طموحات أردنية على حساب أي دولة عربية أو إقليمية في ذات الوقت الذي يرفض فيه الأردن أن يكون محلاً لأطماع أو طموحات أي طرف في المنطقة أو غيرها، المعادلة الواضحة والبدهية والبسيطة تستغلق على أفهام كثير من الدول التي دخلت في السباق على المنطقة وعلى التوسع الإقليمي، أو التهرب من المسؤوليات الإقليمية أيضاً كما هي الحالة مثلاً بين تركيا ومصر.
مرة أخرى يثبت الأردن أن وسطيته وواقعيته وثوابته هي الموقع الصحيح في منطقة غير ناضجة سياسياً، وربما يكون بوسع المملكة في هذه المرة أن تخرج بالعرفان المتوقع والمستحق لا أن تخذل من جديد كما حدث في الخمسينيات والتسعينيات من القرن الماضي.