رحيل جيل الدولة الوطنية العربية

جيل كامل من الشخصيات السياسية والفكرية والصحافية العربية من الذين عاصروا استقلال الدولة الوطنية العربية أخذ أعضاؤه في الرحيل الواحد تلو الآخر.

 

 

هذا الجيل ناضل أعضاؤه في سبيل تحرير أوطانهم من الاستعمار الأجنبي وساعدوا في تأسيس الدول الوطنية من خلال مسارات شتى، وكان رائدهم تأسيس نظم ديموقراطية تعبر عن طموحات شعوبهم وتلبي احتياجات الجماهير الأساسية.

 

 

لقد ناضل أعضاء هذا الجيل العربي لتحرير الأرض العربية من الاحتلال والاستعمار كما حدث في مصر وفي الجزائر وفي تونس والمغرب، وكذلك في العراق وسورية ولبنان. كانت المعركة واحدة وإن اختلفت وسائل النضال. في بعض الدول كان التفاوض مع المستعمر هو الوسيلة الرئيسية كما حدث في مصر بعد ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 حين نجح الضباط الأحرار بقيادة «جمال عبدالناصر» في مفاوضاته مع بريطانيا العظمى عام 1954 في انتزاع استقلال مصر وجلاء القوات البريطانية.

 

 

غير أنه في الجزائر شنت جبهة التحرير الجزائرية حرباً حقيقية ضد قوات الاستعمار الاستيطاني الفرنسي ونجحت -بعد معارك شرسة ضد الجيش الفرنسي وشهداء بلغوا مليوناً في انتزاع استقلال الجزائر- وضحوا في سبيل ذلك بمليون شهيد.

 

 

وهكذا يمكن القول إن أعضاء هذا الجيل في الأربعينات والخمسينات استخدموا عديداً من الوسائل لتحرير أوطانهم سواء بالتفاوض أم بالحرب أم بمزيج من التفاوض والنضال العسكري.

 

 

غير أن الحصول على الاستقلال والذي كان منطلقاً لتأسيس الدول الوطنية كان مجرد الخطوة الأولى في مسار سياسي ساده الاضطراب والتعثر.

 

 

وذلك لأنه في بعض البلاد مثل سورية ومصر قامت انقلابات عسكرية هدفها الحكم نظراً لترهل الحكومات المدنية وعجزها عن مواجهة المشكلات الكبرى بعد الاستقلال -وهذه الانقلابات العسكرية سرعان ما تعددت في سورية والعراق ثم ليبيا مما أدى إلى حالة بالغة الخطورة من عدم الاستقرار السياسي وكانت لها في ما بعد آثار كارثية على استقلال البلاد.

 

 

غير أن بعض هذه الانقلابات العسكرية وأبرزها انقلاب الضباط الأحرار بقيادة «جمال عبدالناصر» على النظام الملكي في 23 تموز (يوليو) 1952 سرعان ما تحول إلى ثورة بحكم أن الضباط الأحرار صاغوا مشروعاً متكاملاً لتحقيق العدالة الاجتماعية استفادوا فيه من المشروع الإصلاحي الذي وضعته الحركة الوطنية المصرية قبل تموز 1952. ولم يكن هذا الجيل المؤسس يتكون من شخصيات سياسية فقط بل كان يضم بين جنباته مفكرين أفذاذاً في مقدمهم ساطع الحصري الذي نظّر للقومية العربية مما جعل شخصيات سياسية متعددة تؤمن بأن تحقيق الوحدة العربية مطلباً أساسياً لا بد من تحقيقه. وبالإضافة إلى ساطع الحصري كان هناك مفكرون عرب في المشرق والمغرب والخليج ممن رفعوا رايات التنوير الثقافي، وساعدوا في صياغة العقل العربي الحديث الذي يؤمن بالعقلانية والديموقراطية والعروبة.

 

 

غير أن التاريخ العربي المعاصر شهد انتكاسات شديدة حين تحولت بعض البلاد العربية التي نالت استقلالها من الحكم الديموقراطي إلى الحكم الاستبدادي سواء اتخذ صورة الدول الشمولية أو السلطوية مما جعل الساحة العربية تزخر بصراعات سياسية بالغة الحدة والعنف سواء بين أعضاء النخب السياسية في بلد واحد كالعراق وسورية، أو بين الدول العربية ذاتها حين سادت في الخمسينات التفرقة بين الدول الرجعية والدول التقدمية مما أشعل الصراع في العالم العربي وهو الذي أطلق عليه أحد علماء السياسة الأميركيين «الحرب الباردة العربية».

 

 

ولا نستطيع في مقال وجيز تعقب التاريخ العربي الحافل منذ الخمسينات حتى الآن بما في ذلك قيام منظمة التحرير الفلسطينية، والحروب الإسرائيلية العربية وما ترتب عليها من نتائج بالغة الخطورة.

 

 

ولكننا نكتب اليوم بمثابة رحيل اثنين من عمالقة الجيل المؤسس للدولة الوطنية المصرية وهما الدكتور بطرس بطرس غالي عميد الديبلوماسية العالمية والأمين السابق لهيئة الأمم المتحدة، والأستاذ محمد حسنين هيكل الصحافي المرموق.

 

 

وتشاء الأقدار أن يرحل بطرس غالي وفي اليوم التالي مباشرة يرحل هيكل وكل منهما امتد به العمر إلى ما يزيد قليلاً على التسعين عاماً، ومعنى ذلك أنهما خاضا معارك مصر المتعددة منذ عام 1952 حتى الوقت الراهن.

 

 

الدكتور بطرس غالي أكاديمي من طراز رفيع لأنه بعد أن حصل على الدكتوراه في القانون الدولي من باريس أسهم في تأسيس كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة. وكان له نشاط ثقافي متعدد بالإضافة إلى التدريس الجامعي، لأنه بناء على تكليف من الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام أسس مجلة «الأهرام الاقتصادي» الأسبوعية، وكانت أول مجلة مصرية تعالج الموضوعات الاقتصادية بأسلوب علمي متكامل.

 

 

كما أسس مجلة «السياسة الدولية» التي أصدرتها الأهرام ورأس تحريرها سنوات عدة، ولم يترك رئاسة التحرير إلا بعد أن اختير ليكون أميناً عاماً للأمم المتحدة.

 

 

كما رأس في فترة ما «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» الذي أسسه الأستاذ محمد حسنين هيكل بنظرة استراتيجية ثاقبة.

 

 

ويلفت النظر أن الأمم المتحدة حين وصلها خبر رحيل الدكتور بطرس غالي نعاه بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة قائلاً: «كان شجاعاً في تعامله مع العديد من القضايا كما أن تعهداته وخطواته بالأمم المتحدة كانت لا تخطئ وكانت في مصلحة الأمم. وأضاف: «إنه أشرف على العديد من المهام ولعب دوراً في تقديم الحلول وتذليل العقبات ما بعد الحرب الباردة وكان له دور مهم في وضع أجندة في السلم والسلام والديموقراطية».

 

 

أما الأستاذ محمد حسنين هيكل والذي رحل بعد يوم واحد من رحيل الدكتور بطرس فهو بلا منازع «أيقونة» الصحافة العربية لأنه منذ بداية مشواره الصحافي تشرب بعمق تقاليد وأعراف المهنة، وكان مراسلاً حربياً في حرب كوريا والحرب الأهلية في اليونان، كما أنه تابع بدقة ثورة مصدق في إيران.

 

 

وتحقيقاته الصحافية وكتبه عن هذه الحروب التي تابعها بدقة شديدة تعد مراجع أساسية. وللدلالة على ذلك نشير إلى كتابه الشهير «إيران فوق بركان» الذي حلل فيه بعمق شديد أسباب قيام الثورة الإيرانية التي قادها مصدق.

 

 

غير أن أهم الأدوار في حياته الحافلة أنه أعاد تأسيس جريدة الأهرام لتصبح في عهده أهم جريدة عربية، وكانت لها مصداقية عالمية، كما أنه بنظرة حضارية مرهفة أدرك مبكراً أهمية دور الصحافة في التنوير الثقافي ولذلك ضم إلى هيئة تحرير الأهرام عمالقة المفكرين والأدباء مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وبنت الشاطئ ولويس عوض وحسين فوزي.

 

 

كما أنه -إدراكاً عميقاً منه بأهمية البحث العلمي- أسس «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» والذي قام بدور رائد في نشر الفكر العلمي الاستراتيجي وقد تشرفت بإدارته من عام 1975 حتى عام 1993.

 

 

كان هيكل بالإضافة إلى كونه صحافياً عالمياً بارعاً مفكراً استراتيجياً من طراز رفيع، وتشهد على ذلك كتاباته ومؤلفاته وأحاديثه التلفزيونية التي كانت تجذب ملايين المشاهدين العرب، لأنه كان يمتلك البصيرة العميقة ولديه القدرة على استشراف المستقبل.