تجديد الخطاب الديني؟

منذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) تعالى الصوت الأمريكي ضد «التربية الإسلامية» في البلاد العربية معتبرا إياها مسؤولة عن التطرف الديني نظريا، وممارسة الإرهاب عمليا. وطالب الصوت نفسه بتغيير مقررات الدراسة في بعدها الديني وتشذيب الدعوات التي كانت تكال لأعداء الإسلام في المنابر والحلقات.
تكرر السيناريو نفسه بعد الإطاحة بحكومة الإخوان في مصر، وتعالت الأصوات بتجديد الخطاب الديني. وشهد المغرب الحالة نفسها مؤخرا، فتدخلت حقوق الإنسان لتمارس دورها في المقررات الدراسية، وكثرت الأقلام التي تطالب بتغيير مضامين تدريس المواد الدينية لتتلاءم مع العصر الذي نعيش فيه: عصر حقوق الإنسان، والمساواة بين الشعوب.
أمام هذه الدعوات لا يسعني سوى التساؤل عن معنى تجديد الخطاب الديني؟ فهل المقصود بالخطاب الديني النصوص الدينية ممثلة في القرآن الكريم والحديث النبوي؟ أم الخطاب عن الدين وهو الذي أنتجه مفكرون إسلاميون؟ وما المراد بالتجديد؟ هل هو إقصاء بعض النصوص من التداول، وإزالتها من الكتب المدرسية أم الدعوة إلى تطوير البحث في الدين باعتماد مقاربات جديدة غير التي ظلت سائدة؟
إن ما جعلني أطرح مثل هذه الأسئلة يكمن في التباس الدعوة والجهات التي تدعو إليها، وعلاقة هذه الجهات بالدين الإسلامي بصورة خاصة. لا أحد يجادل في ضرورة تجديد الخطاب الديني الذي ينتجه وعاظ ودعاة ومفكرون، وتحريره من كل الشوائب التي تحول دون إسهامه في إنتاج معرفة جديدة تتلاءم مع العصر ومتطلباته بما يخدم الإنسان في العالمين العربي والإسلامي. وأولى الناس بطرح هذا المطلب الحيوي هم المشتغلون من جهة بتحليل الخطاب، من جهة، والمختصون بالبحث في المجال الديني، من جهة أخرى.
في هذا السياق أؤكد أن تجديد الخطاب الديني، في العصر الحديث، ابتدأ منذ عصر النهضة مع محمد عبده، وهو ممتد إلى الآن مع محمد أركون وطه عبد الرحمن. تعددت المقاربات والاتجاهات والتيارات، وكلها تستدعي إعادة النظر، بحثا وتصنيفا وقراءة نقدية. وتجديد الفكر الديني وخطاباته مفتوح ولا لأحد أن يوقفه أو يصادره. كما أن المطالبة بالتحري والتدقيق والبحث الموضوعي بهدف المساهمة في وعي ديني فعال وإيجابي بناء على ضرورات البحث العلمي ومستلزماته من الأمور التي لا يمكن أن يعترض عليها أحد.
لكن هذه الدعوات حين تتعالى مرتبطة بأحداث ناجمة عن التطرف والإرهاب، أرى، وهي تطالب بالتجديد الديني، أنها تمارس نوعا من التغليط والالتباس، لسبب بسيط هو أنها تربط ربطا آليا بين الإسلام والتطرف الديني، وأن الإسلام بالكيفية التي يمارس بها أو يدرس بها في المدارس هو المسؤول عن إنتاج التطرف ومختلف ممارساته.
بات الجميع يسلم الآن بأن الإرهاب والتطرف لا وطن لهما. وأن بإمكان الدولة أن تمارسهما، كما يمكن أن تمارسهما الطائفة أو الجماعة الاجتماعية، أو العرقية أو الحزب أيا كانت المسوغات أو المبادئ التي يدعون. وما نشهده اليوم، وخبرناه منذ أزمان يبين لنا بجلاء أن التطرف رداء يمكن أن تلبسه أي جهة. وما اليمين المتطرف في أوروبا، سوى وجه من وجوه التطرف والإرهاب الذي يمارس ضد المهاجرين والمقيمين، وهو يعتبرونهم أفرادا من الدرجة العاشرة، فتسحب منهم مكتسباتهم، وجنسياتهم… كما أن المستوطنين في إسرائيل، وهم يحتلون أراضي الفلسطينيين، ويحرقون الأشجار ويخربون البيوت على ساكنتها، ليسوا سوى دليل صارخ على التطرف والإرهاب. وكل هؤلاء لم يقرأوا في مقررات التربية الإسلامية عن غزوات المسلمين، وعن كون المسلمين أفضل الأمم… وكل المضامين التي يرى البعض أنها تولد الكراهية بين الأمم والشعوب. فأين تعلم هؤلاء دروس «الإرهاب»؟ هذا هو السؤال الذي لم تجب عنه آثار أحداث الحادي عشر، ولا بروز التيارات الإسلامية وهيمنتها في الساحة العربية والإسلامية.
لا أحد يريد البحث في الجذور الحقيقية للإرهاب ولا التطرف. إن الكل يريد ركوب الحائط القصير، وهو الإسلام، لتبرير التدخلات والإملاءات الأجنبية. وليس بتغيير المقررات التربوية يمكننا تكوين أجيال جديدة لا تؤمن بالعنف ولا بالتطرف. إن الذين يمارسون الإرهاب من «المسلمين» ويلتحقون بالمنظمات الإرهابية علاقتهم بالإسلام سطحية، وأغلبهم شباب لم يتلق تكوينا دينيا ولا مدنيا. بل إن العديد منهم من أوساط شعبية كانوا يعيشون في ظروف مزرية. ولقد زج بهم في أتون الصراع العالمي باستغلالهم وغسل أدمغتهم، وتمتيعهم بالمال الذي ظلوا يبحثون عنه. إن التلميذ المغربي لا يتلقى فقط مواد التربية الإسلامية. فلماذا كان تأثير هذه المادة أكثر من غيرها من المواد على نفسيته وعقليته واختياراته؟ ثم كم من التلاميذ والطلاب المغاربة الذي التحقوا أو يلتحقون بالتنظيمات الإرهابية بالمقارنة مع غيرهم ممن هم ضد الإرهاب والتطرف؟ إن المدرسة المغربية لا تُخرِّج المتطرفين، ولكن العاطلين. وهؤلاء العاطلون مرشحون للتحول إلى متطرفين.
عندما كان اليسار مهيمنا في السبعينيات اعتبرت الفلسفة مسؤولة عن تنامي الأفكار الشيوعية والثورية. وتم تغيير المقررات بإحلال المواد الإسلامية محلها. فهل انتهى الإحساس بالتفاوت الاجتماعي والفساد الإداري؟ لقد تم حلق لحية ماركس، وعوضت بلحية الفقيه. كما أزيلت قبعة غيفارا، لتوضع على الرأس عمامة الشيخ. فما الذي يجمع بين النقيضين: إنه البحث عن مخرج من القهر والظلم الاجتماعي. باسم الديموقراطية اليوم في الغرب وحقوق الإنسان يعاني المهاجرون والمقيمون من العسف والشعور بالإهانة. وباسم محاربة الإرهاب يذبح الروس الشعب السوري المحاصر. فكيف سيكون أبناء المهاجرين اليوم؟ أليسوا مؤهلين ليكونوا إرهابيي الثلاثينيات من هذا القرن؟ لماذا نجد أبناء الجاليات الإسلامية في أوروبا اليوم من أكثر المنخرطين في التيارات الدينية المتطرفة؟ من المسؤول عن هذا الوضع؟ أليست الديموقراطية الغربية نفسها التي تحرم الجاليات الإسلامية من حقوقها؟ لكنهم لا يريدون الاعتراف بسلوكهم إزاء هؤلاء الذي يشـــعرون بالمقت وبالميز.
من يتحدث اليوم عن إسرائيل؟ أليس كل تاريخها هو تاريخ التطرف والإرهاب؟ ولكن لا أحد يمكنه ادعاء ذلك في أوروبا، وإلا عد معاديا للسامية؟ لكن إسرائيل ظلت متمادية في سلوكها ضد الفدائيين والمقاومين والمنتفضين، والآن مع الطاعنين. وكل هؤلاء إرهابيون؟ أليست إسرائيل هي التي تولد كل هذه الظواهر التي تعبر عن رفضها للاستيطان، وتبحث لها عن وطن؟
إن الحديث عن تجديد الخطاب الديني باطل أريد به حق. كيف يمكننا تجديد الخطاب الديني بدون تجديد كل الخطابات التي تمارس الكراهية، وهي تدعي أنها تدعو إلى التسامح؟ كيف ندعو إلى إلغاء خطاب ديني نرى أنه يدعو إلى التمييز بين الشعوب، ونحن ندعي أن شعبنا شعب الأحرار، وأننا السكان الأصليون؟ والآخرين غزاة؟ كيف يمكننا تجديد الخطاب الديني بدون تجديد العلوم والمناهج التي تدرس هذه الخطابات؟ كيف يمكننا تجاوز خطاب الحداثة عندما نهاجم الإسلام، ونتحول إلى سلفيين حين نتحدث عن خصوصيتنا؟ أين الوطنية وحقوق المواطنة التي تعلو على كل عرقية أو طائفية أو حزبية؟ هذه هي الخطابات التي ينبغي أن تتجدد أيضا، والخطاب الديني في حاجة أبدا إلى تجديد.
تجديد الخطاب الديني مشروط بتجديد كل الخطابات التي ينتجها العربي كيفما كان معتقده، وغير العربي كيفما كانت عرقيته أو لغته. وعلى رأس كل هذه الخطابات الخطاب السياسي والإعلامي الذي يوظف الدين والطائفة والعرق بشكل لا يراعي الآخر المختلف باحترام وتقدير، وبحوار هادئ يؤمن بالإنسان، وألا فضل لأحدهم على غيره إلا بالعمل الذي يخدم الجميع.

كاتب مغربي

سعيد يقطين