أطفالنا.. متسولون وعمال وأشياء أخرى

مشاهد البؤس الإنساني تتفاقم وتطفو على سطح مجتمعنا، طفولة بائسة تجدها في جميع الأوقات من الليل والنهار، وفي جميع الفصول، لا تمنعهم حلكة الظلام، ولا برد شتاء قارص ولا حر صيف قائظ، ففي معظم الشوارع والأزقة هناك أطفال (فتيان وفتيات) في عمر الزهور يتقافزون عند الشارات الضوئية -حيث ترتفع احتمالات الخطر– يتسولون يضربون زجاج السيارات، يستدرون العطف، يفرضون خدماتهم وسلعهم بالإكراه.

في كل عام يتم ضبط آلاف الحالات، ورغم ذلك فأعدادهم تتزايد عاما بعد عام وخاصة من الفتيات القاصرات!

ويقيني أن هؤلاء جميعا هم ضحايا لأسر لا تستحقهم!

كما يشهد الأردن -في الوقت نفسه- ارتفاعا في ظاهرة «عمالة الأطفال»، فقد ظهر في دراسات حول عمالة الأطفال في الأردن أرقام كبيرة لأعداد الأطفال العاملين تصل إلى نحو "خمسين ألف طفل”، كما جاء في تقرير لمنظمة العمل الدولية صدر حديثا بعنوان (نحو أردن خال من عمالة الأطفال) أن أحدث التقديرات تشير إلى أن (1,6) في المائة من الأطفال في الأردن ممن أعمارهم ما بين خمس إلى سبع عشرة سنة يعملون. وتتفاقم هذه الظاهرة مع تفاقم أوضاع الهجرة واللجوء إلى الأردن.

ففي مختلف المدن هناك أطفال -بأجسام لم يكتمل نموها بعد- يعملون في أعمال خطرة وصعبة (في المهن الحرفية والإنشائية والصناعية وخدمات السيارات، وورش الحدادة والدهان، وجمع النفايات وغيرها في بيئة عمل "ملوثة” (بكل أشكال التلوث)، وفي ظروف عمل بالغة القسوة والتناقض والانتهاك لكل الشرائع والقوانين الوطنية والدولية، وكل القيم الدينية والأخلاقية، حيث لا فرصة تعليم مناسبة، بل هم محرومون حتى من التعليم الأساسي (يتركون المدرسة بعمر 12-17)، ولا فرصة عمل لائقة أو مناسبة، إذ يقومون بأعمال مرهقة وخطرة وضارة بالصحة، ولا شروط عمل مناسبة، إذ يعملون ساعات عمل طويلة وبأجور زهيدة، ولا تأمينات من أي نوع، فهؤلاء هم "صبيان المعلم” يظلون عرضة للطرد والتيه في المجهول عند أي تحول في مزاج "المعلم”، ولا حماية ولا مساعدة اجتماعية، فلا دخل آمن، ولا ضمان اجتماعي، ولا تأمينات ضد الإصابات أو العجز، ولا حتى مجرد إعانة عند التعرض لإصابة عمل خطيرة، ولا حماية من البطالة، فلا تدريب مهني ولا إعادة تأهيل، ولا رعاية صحية ولا حتى غذاء مناسب.

بل -فوق هذا وذاك- فهم يعملون في بيئة مختطرة بمختلف أشكال الفواحش والآفات، بدءا من التدخين مرورا بالخمور والمخدرات (تعاطيا واتجارا وتهريبا) والدعارة والشذوذ، وليس انتهاء ببيع الأعضاء والاتجار بالبشر!

تلك أمثلة من فيض حكايات هذا البؤس الإنساني، لا تتسع لها مساحة مقالة أو بحث أو دراسة ولكنها تكفي للتأشير إلى مواطن الخلل وأولويات التحرك المجتمعي.

صحيح أن للتسول أسبابه، وصحيح أن الدراسات تقول إن الفقر والبطالة يتصدران هذه الأسباب، ولكن الدراسات تفيد أيضا أن غالبية المتسولين هم من الفئة "الكسولة الخاملة” التي "تؤثر التسول باعتباره مهنة مريحة ووسيلة للكسب السريع!

وصحيح كذلك أن الأردنيين يعيشون في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، ولكن مهما بلغت قسوة الظروف فلا يجوز أن يكون الأطفال هم الضحايا لظروف وأوضاع لا ذنب لهم فيها؟ هناك مسؤولية اجتماعية ووطنية على الجميع.

إن تحقيق كرامة الإنسان هي في صدارة أولويات الدول والمجتمعات التي تحترم نفسها وكيانها الإنساني، وعليه فعلى الدولة بمؤسساتها وسلطاتها ووظائفها مسؤولية حفظ "الضرورات الخمس” وهي: "حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل”، وبحفظ هذه الضرورات يتحقق التوازن بين التنمية الشاملة والحماية الاجتماعية بأشكالها المختلفة، فمعالجة الفقر، والحد من تسخير الأطفال في العمل الشاق وغير الشاق، والحد من ابتزاز الذكور والإناث، والتأكيد على العدل، كلها من ضرورات الحماية التي ينبغي أن تتولاها الحكومة، كما أن الحكومة مسؤولة عن التشريعات والسياسات الخاصة بالتأمينات الاجتماعية والصحية والتعليمية والتشغيلية، وعن التنفيذ والمتابعة والرقابة والمساءلة والمحاسبة والردع، وهي مسؤولة عن مأسسة الحوار الاجتماعي وتعزيزه حول هذه القضايا المفصلية في حياة المجتمع.

وتتحمل الشركات العامة والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني بما فيها منظمات أصحاب العمل والعمال مسؤولية اجتماعية فعليها مسؤولية المشاركة بالحوار المجتمعي لتحديد الأولويات، وتوزيع العبء المالي، وعليها مسؤولية نشر الوعي وتقديم الحلول والمبادرات الإبداعية في مجالات الحماية المجتمعية المختلفة وخاصة في حماية الطفولة!

أما الأسرة فهي المسؤولة الأولى عن كل ما يدور في داخلها من سوء تعامل بين أفرادها من عنف قد يمتد إلى الاعتداءات الجنسية، ومن قسوة في التربية والتأديب أو إهمال فيهما!

فمتى نتحمل مسؤولياتنا المجتمعية، فبدونها لن ننجح من تنظيف مجتمعنا من تلوث هذه الظواهر، فإنها والله، مؤلمة نفسيا، مخجلة وطنيا، مقلقة أمنيا، مهينة إنسانيا، ومدمرة اجتماعيا واقتصاديا!