الإسلاميون والمراجعات المطلوبة

هل يحتاج الإسلاميون مزيد انفتاح على مجتمعاتهم بكل مكوناتها السياسية والاجتماعية، وهل يحتاجون توسيع مساحات الشراكة مع الآخر السياسي والاجتماعي، وهل ثمة ضرورة لمراجعات فكرية وسياسية جريئة باتجاه إنضاج الفكر السياسي وتطوير الأداء والتجربة؟

الجواب دون تردد: نعم، والمعطيات الواقعية تؤكد أهمية ذلك. غير أن ما هو صحيح أيضا أن حاجة الآخرين للانفتاح والشراكة وإنضاج الفكر وتطوير الممارسة لا تقلّ عن حاجة الإسلاميين، بل ربما تزيد.

ما يستدعي التوقف مليّا هو طبيعة المراجعات المطلوبة ومجالاتها ومستوياتها، كي يحصل المقصود من تحقيق وعي أعلى وفكر أنضج وممارسة أصوب، وحتى لا تتحوّل المراجعات إلى خروج على الفكرة وتراجع عن المنطلقات، ويكون المآل كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.

تجاهل التطورات المستجدة والمتسارعة، والاستمرار على ذات الحال والمنوال، بمبرر المبدئية والحفاظ على الأصالة، دون إدراك واع لحجم المتغيرات الهائلة التي جرت عبر عقود، قد يفضي إلى الجمود وتراجع الفاعلية والتأثير والوقوف على هوامش حركة الأحداث.

في المقابل، يخطئ البعض إن توهّم أن المشكلة تكمن في المسميات والشعارات وفي الفكر والهوية والمنطلقات السياسية، وإن هو ظنّ أن التخفّف من ذلك يشكّل مدخلا لتجاوز كثير من العقبات، وتحقيق مزيد من الحضور والقبول ورضا الآخر محليا أو إقليميا أو دوليا.

وإذا كانت المسميات والشعارات والعناوين مسائل شكلية قد يسهل تجاوزها دون خسائر كبيرة، فلا شك أن ذلك يختلف كثيرا حين يتعلّق بالجوهر وأصل الفكرة، فالأمر ربما يكون في هذه الحالة أقرب إلى التعبير عن إفلاس وهزيمة فكرية ونفسية وفقدان توازن وارتباك وتخبط.

من الخطأ بمكان أن يعتقد البعض أن الفكر والهوية الحضارية والشعارات السياسية تغني وحدها وتسهم في حلّ المشكلات ومواجهة الأزمات والنهوض بواقع المجتمعات. ويقع ذات الخطأ حين يتوهم البعض أن ثمة تناقض بين حمل الهوية الفكرية والثقافية والمنطلقات السياسية وبين امتلاك برامج واقعية ومشاريع عمل للتعاطي مع الأزمات والمشكلات ولمواجهتها بكفاءة واقتدار.

في الآونة الأخيرة بات البعض ينظر إلى الفكر والهوية الثقافية والمنطلقات السياسية نظرة سلبية ويصنّفها في خانة الاتهام، وربما صوّرها كـ «فيروس» أو جرثومة» أو مشكلة ينبغي التخلص منها أو التبرؤ، خشية الاتهام بـ «الأدلجة» والعدمية، مع أن التجارب الناجحة في أكثر من مكان تدحض الوهم وتظهر فساد هذا الاستنتاج.

فالفكر والهوية والقيم فضلا عن كونها مكونا أصيلا من مكونات شخصية الأفراد وكينونة المجتمعات والحركات، فإنها من أسباب قوة المجتمعات ومناعتها، وهي أيضا من عوامل تعزيز الفاعلية والحضور والانسجام مع نبض الشعوب، ومدخل لتقديم إضافة نوعية في مجال الفكر والممارسة السياسية تحتاجها الأمة شعوبا ودولا وقوى سياسية.

في تركيا أجرى أردوغان وحزب العدالة والتنمية مراجعات فكرية وسياسية جريئة أثارت في حينه حفيظة البعض، وطوّر الحزب تجربة فكرية وسياسية واقتصادية ناجحة حققت قفزات نوعية نقلت الاقتصاد التركي إلى المرتبة 17 عالميا نهاية العام 2014 ، دون أن يكون بحاجة لأن ينقلب على فكره وثقافته وحضارته، واستطاع المواءمة بين ذلك وبين توسيع مساحات الانفتاح والشراكة محليا وإقليميا ودوليا، في سياق خصوصيات التجربة التركية ومعطياتها الواقعية.

وحتى في سعيه للانضمام للاتحاد الأوروبي، رفض «العدالة والتنمية» تقديم هوية تركيا وفكرها وتراثها وحضارتها على مذبح دخول الجنّة الأوروبية الموعودة، وأصرّ على التمسك بقيمه وثقافته والاعتزاز بهويته دون مواربة، وطرح داود أوغلو استراتيجيته الشهيرة «العمق الاستراتيجي» التي أكد فيها ضرورة أن تيمّم تركيا وجهها صوب المشرق، فكانت النتيجة أن انسجم مع رؤيته وقناعاته ومنطلقاته، وفرض احترامه إقليميا ودوليا، وحقّق مزيدا من الرضا والقبول والتأييد الشعبي الذي أظهرته نتائج الانتخابات التركية المتوالية.

وفي المغرب انفتح عبد الإله بن كيران وحزب العدالة والتنمية على المجتمع وعلى أطراف المنظومة السياسية، وتمكّن من صياغة شراكات واسعة مع مختلف الأطياف السياسية والمجتمعية، ونجح بصورة خاصة في الانفتاح على مؤسسة العرش التي قابلت انفتاحه بانفتاح مماثل، واستطاع الطرفان صياغة علاقة إيجابية عزّزت حالة ثقة وطمأنينة متبادلة، وكانت النتيجة قبولا لوجود الحزب في قيادة السلطة التنفيذية أربع سنوات كاملات، دون أن يحتاج لأن يداهن أو يداري أو يخفي هويته الفكرية ومنطلقاته السياسية، فالعقل السياسي الواعي والأداء التشاركي المنفتح والمرن أعفاه من ذلك كله.

وفي تونس دفع الشيخ راشد الغنوشي وحركة النهضة ثمنا باهظا لتعزيز نهج الانفتاح والشراكة والمرونة السياسية، وضحّت الحركة، رغم امتلاكها الأغلبية البرلمانية، برئاسة الحكومة من أجل تونس الشعب والوطن، مؤثرة العام على الخاص، فنجحت «النهضة» وحكمة شيخها في بناء جسور الثقة مع كثير من القوى السياسية وعلى وجه الخصوص مع حزب نداء تونس المنافس ورئيسه السبسي، دون أن تكون بحاجة للنكوص عن هويتها الثقافية ومرجعيتها الفكرية، وتمكّن الطرفان من تحقيق تعايش وتوافق أغضب الإقصائيين والمتشددين والمنغلقين الذين غادروا نداء تونس ساخطين.

صحيح أن تونس ما تزال تواجه الكثير من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية، لكن المؤكد أن تغليب الحكمة ولغة العقل والمرونة والانفتاح السياسي أسهم حتى اللحظة في حماية البلاد من كثير من المنزلقات الخطيرة.

وبذات القدر الذي احتفظ به «العدالة والتنمية» في تركيا والمغرب و»النهضة» في تونس، بفكرهم وهويتهم الثقافية والحضارية وبمنطلقاتهم السياسية، دون أن يشكّل ذلك عائقا أمام انفتاحهم وبنائهم شراكات محلية وإقليمية ودولية واسعة، فإن الأطراف الثلاثة لم تغيّر أو تبدّل في مواقفها المبدئية تجاه قضايا الأمة الرئيسة وفي المقدمة منها قضية القدس وفلسطين، بل إن صوتها ربما كان الأقوى سياسيا والأعلى إعلاميا في الوقوف إلى جانب القضية والشعب الفلسطيني وإلى جانب كل قضايا الأمة العادلة.

لا مبرر لـ «فوبيا» أو «رهاب» من الفكر والثقافة والهوية الحضارية ومن دعم قضايا الأمة العادلة بل والقضايا الإنسانية المحقّة، كما أن من الخطأ بمكان اعتبار ذلك كله رديفا للعدمية أو نقيضا للوطنية والبرامجية والواقعية.