رجال في الشمس ... نساء في الثلج

ما بين عثور الشرطة الألمانية على 10 لاجئين متجمّدين من البرد أواخر كانون الثاني (يناير) 2016، وصدور رواية الشهيد الفلسطيني غسان كنفاني «رجال في الشمس» مطلع الستينات، ما يزيد على نصف قرن. لكنّ المأساة ذاتها، والأقدار هي نفسها، لم تتغير أو تتبدّل، بل زادت كابوسية وعنفاً، وسال بسببها دمٌ كثير في أروقة التاريخ، وفاض ألمٌ لا يمكن احتماله.

 

 

في ألمانيا تجمّد لاجئون يرجّح أنهم سوريون، بعدما وضعهم مهربون في ثلاجة شاحنة كانت تنقل بضاعة من فرنسا إلى ألمانيا.

 

 

ولم يتم اكتشاف أمر اللاجئين العشرة، وبينهم 5 أطفال تراوحت أعمارهم بين 8 أشهر و15 عاماً، إلا عند تفريغ محتويات الثلاجة بعد رحلة استغرقت 8 ساعات في مدينة كيمبن غربي ألمانيا. وأفادت الأنباء أنّ مهربين في العاصمة الفرنسية باريس استغلوا غفلة سائق شاحنة ووضعوا عائلة لاجئين داخل ثلاجة شاحنة متجهة إلى ألمانيا، ما أدى إلى تجمدهم بعد بقائهم عدة ساعات داخل الثلاجة في درجة حرارة لم تزد عن ثلاث درجات مئوية.

 

 

وفي رواية كنفاني، يلقى ثلاثة فلسطينيين حتفهم اختناقاً داخل صهريج فارغ لنقل المياه على الحدود الكويتية في درجة حرارة جحيمية، بعد أن راح سائق الصهريج يسرد حكايات وهمية مع شرطة الحدود عن غرامياته النسائية، على رغم أنه عِنّين، فقد رجولته في قذيفة أصابته أثناء مشاركته في الحرب على الإسرائيليين الذين اغتصبوا وطنه عام 1948.

 

 

وفي كلتا الحادثتين استسلم الضحايا للصمت، وكان الهلع أشدّ سطوة من الموت الزاحف إلى شرايينهم، فالذين قضوا في لهيب الصحراء العربية لم يدقوا، وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، جدران الخزّان، والعشرة الذين استسلموا للزمهرير لم يدقوا جدران الثلاجة، فأسلموا مصائرهم لصولجان الخوف، فخطف أرواحهم، ومنحهم موتاً مجمّداً لم يكن متوقعاً، عوضاً عن موت أكيد في أوطانهم التي هربوا منها، فركبوا البحار وفقدوا أحبتهم، أملاً في حياة لا تشبه الحياة.

 

 

إنّه التاريخ الذي لا تزال مأساته مستمرة تسرد فصولها المتوحّشة، منذ أن تاهت بوصلة العالم الأخلاقية، واضطربت معاييره، وتحطمت قيمه، ما يجعل الرجال الذين احترقوا في الشمس ماثلين أمام ضمير العالم، يأملون في يقظته، منذ زمن بعيد، منذ أن التقى الفلسطينيون الثلاثة: (أبو قيس، أسعد، مروان) بالسائق الذي فقد رجولته أبي الخيزران.

 

 

كان الثلاثة، ومعهم السائق أيضاً، هاربين من مصائرهم الصعبة، وباحثين عن خلاص فرديّ في بلاد النفط. لكنّهم كانوا يحلمون بالعودة بعد أن يجمعوا بعض المال، ويرمّموا الحلم المتصدّع في بلادهم. بيد أن صراخهم اختنق داخل الصهريج. الحاجة إلى الخلاص طغت على الرغبة في الحياة، والمراهنة على فسحة هواء قادمة شلّت قدرتهم على الاحتجاج، فضاع صوتهم، وفقدوا صراخهم الشرعيّ في وجه الموت والعدم والاختناق.

 

 

والطاردون هم أنفسهم، لم يتغيّروا، بل تنوعت أدوارهم ووظائفهم. في البداية كان الاحتلال الذي يقتل ويحرق ويغتصب ويشرد ويعتقل وينفي ويشطر الجغرافيا ويبصق في وجه التاريخ، كما هو الحال في المأساة الفلسطينية.

 

 

أما في الحالة السورية، وهي أقصى ما يمكن أن تبلغه الوحشية من انحطاط وسُفليّة، فبراميل الموت، والميليشيات المذهبية، وصورايخ سكود التي تدك منازل المدنيين، والطائرات الروسية التي تقضي على ما تبقى منها بزعم «محاربة الإرهابيين»... كلها جعلت البشر يهربون من موت محتّم، إلى موت أقلّ إيلاماً، حتى لو كان غرقاً في مياه الأبيض المتوسط الذي تجوز تسميه «القبر الأبيض المتوسط»، أو تجمّداً في ثلاجة تعامل المهربون مع الموجودين في داخلها على أنهم دواجن، ولا بأس لو مضت عليهم ثماني ساعات، ما داموا ارتضوا هذا المصير اليائس.

 

 

وما بين الموت في صهريج أطلق عليه المختنقون الفلسطينيون الثلاثة اسم «جهنم» وبين هلاك السوريين العشرة تجمّداً، صرخاتٌ مخنوقة في عالم مسيّج بالخوف والطغاة، ومطرّز بأوهام حقوق الإنسان، ومزيّن بأكاذيب الأسرة الكونية الواحدة. الموت وحده يدحض هذا التهافت، ويصرخ بأعلى صوته في وجه الحياة، فيزهقها، ويريق دمها، ويخنق أنفاسها، كي يتمجّد الوحش، ويجر الإنسان إلى كهفه الأول!