«العثمانية الجديدة».. وَهْم تَبَدد !

لم يبقَ الا الاعتراف امام الرئيس التركي رجب اردوغان، بعد ان وصل مشروعه (اقرأ وَهْمَه) العثماني الجديد.. الى نهايته, وعليه إشهار افلاسه، فلم تعد رشقات الاتهامات التي يوجهها بلا حساب للآخرين، حلفاء وأعداء ومنظمات دولية وهيئات اقليمية، صالحة للاستعمال, في ظل اقرار الكثيرين بأن الرجل الذي شكلت نجاحاته الاقتصادية وخصوصاً انتصاراته الانتخابية على تراث من الحزبية والبنى والهياكل الاتاتوركية، انموذجاً في كيفية تفعيل الماكينة الحزبية، والاعتماد على الانصار والمحازبين، ما بالك ان الرجل الذي خرج من عباءة نجم الدين اربكان قافزاً - بانتهازية - من سفينة «الأستاذ» الجانِحة، يعتمد خطاباً اسلاموياً غَلّفه بشعارات وعناوين جاذبة للشرائح الاجتماعية الدنيا من المجتمع التركي، حيث التدين الطبيعي والميل الى تصديق الوعود والتعاطف مع من يريد احياء سيرة (الاسلام) بنسخة جديدة، ودائماً في تحدي العلمانية، التي هي في تفسيرهم المتواطئ معادل موضوعي لـ «الإلحاد»، الامر الذي مَكّن اردوغان من حصد المزيد من الاصوات في مواجهة باقي الاحزاب التي استقرت على ثلاثة فقط، تتمتع بقوة شعبية تسمح لها بالبقاء تحت قبة الندوة البرلمانية، كحزب الشعب الجمهوري (حزب اتاتورك نفسه)، والحركة القومية المتطرفة وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي نجح (في دورتين) بأن يكون جزءاً من التركيبة السياسية والحزبية التركية, بعد طول انتظار وقمع وتضييق واتهامات بالخيانة وغيرها من مصطلحات الارث العثماني والاتاتوركي العنصري, الذي لا يعترف بِمُكَوِن اساسي من الشعب التركي تصل نسبته الى نحو من عشرين بالمائة من عدد السكان (دع عنك المُكوِن «العلوي» الذي يصل النسبة ذاتها او يزيد)..


ما علينا..

المتابع لما يقوم به الرئيس التركي والاتهامات القاسية التي يُوجهها في كل اتجاه، متجاوزاً كل حدود اللياقات السياسية والدبلوماسية، ومُتطلبات الحَذر في الخريطة الدولية والاقليمية المُحتقنة والمُقبلة - بل هي بدأت على تغييرات قد تكون عاصفة وغير مسبوقة، يلحظ في غير عناء ان اردوغان، يبدو وكأنه وصل الى قناعة بأن ما تبقى من مشروعه (الطَموح ولكن غير الواقعي) العثماني الجديد، بات بلا رصيد وان هوامش مناورته قد ضاقت، ولهذا فهو يريد، استدراك ما فات ومحاولة الخروج من (المَوْلِد السوري خصوصاً) بأقل الخسائر الممكنة عبر استدراج «شركاء» له في «الموقعة» السورية،المتجهة نحو الحسم، التي خسرتها تركيا, او تكاد, بعد أن اصبحت حلب بأريافها الاربعة، بعد اللاذقية واريافها كافة، قاب قوسين او ادنى من العودة الى حضن الدولة السورية الشرعية وبات التهديد بالغزو البري بذريعة محاربة «داعش» مجرد اسطوانة مشروخة او حلم ليلة صيف، رغم اننا في «عز» فصل الشتاء القارس الذي يضرب شمال سوريا (جنوب تركيا).

لهذا... بات السؤال الاكثر الحاحاً في ظل «حملة» الانتقادات الشنيعة واللاذعة التي يوجهها اردوغان الى الادارة الاميركية وفي شكل متواصل ولافت.. مَنْ الذي عليه ان يختار فعلاً.. واشنطن ام انقرة؟ بعد ان خيّر اردوغان واشنطن بينه وبين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري PYD مُتهِماً ادارة اوباما بانها لا تعرف حقيقة هذا الحزب «الارهابي» الذي هو جزء او ذراع لحزب العمال الكردستاني التركي PKK؟

رغم ذلك، ادارت واشنطن ظهرها لحليفها في حلف شمال الاطلسي وقالت في وضوح «تُحسد عليه» انها لا ترى في حزب الاتحاد الديمقراطي بزعامة صالح مسلّم... تنظيماً ارهابياً، بل وأوفدت مبعوثين خاصين للالتقاء بقيادات وكوادر الحزب السياسية والعسكرية (في اطار قوات سوريا الديمقراطية) الى عين العرب (كوباني) والبحث معهم في كيفية محاربة الارهاب. دون ان نهمل اتهامه واشنطن بأنها اغرقت المنطقة بـ»الدماء».

ليس هذا فحسب، بل خرج اردوغان على اوروبا مُهدِداً بـِ(اغراقها) بموجات من اللاجئين السوريين, إذا لم «تدفع» نقداً, لان انقرة ليست غبية (كذا) كي تُنفق عليهم اكثر من طاقتها. بدا الأمر إذن ابتزازا موصوفا اكثر منه تعاوناً في حل مشكلة معقدة، قامت اوروبا، برشوة تركيا وبذل وعد لها بان تفتح المزيد من الفصول الرامية الى ضم انقرة الى عضوية الاتحاد، لكن المُستعمِرين القدامى (بمن فيهم تركيا العثمانية القديمة والجديدة) لا يَفون بوعودهم ولا يحترمون كلمتهم-فرأى اردوغان-ان يُصَوِب باتجاه اوروبا علّه يصيب نجاحاً.. لكن هيهات.

ماذا عن روسيا؟ حدِّث ولا حرج, فهي في نظره ترتكب المجازر وتجب محاسبتها وانها تحتل سوريا وتريد فقط اقامة دولة للأسد على الساحل السوري (نسي عن قصد ان يقول دولة علوية حتى لا يغضب العلويين في بلاده) بعد ان ارتكب المجازر في جنوب شرقي تركيا الكردي وخصوصاً في بلدة سيلوبي، ما اثار احتجاج اكثر من الف ومائتي مثقف واستاذ جامعي, قام اردوغان باعتقال بعضهم بتهمة الخيانة ووَصَف الباقين بانهم «جهلة لا يفهمون» رغم ان بينهم المفكر اللغوي المعروف نعوم تشومسكي.

تلويح اردوغان المتكرر بالتدخل العسكري او مواصلة دعم «الثوار» او «اقتراب» موعد اقامة منطقة»آمنة» او حظر جوي، باتت تُثير السخرية اكثر مما تبعث على القلق او اثارة المخاوف.

.. في السطر الاخير.. خسر الرجل, الذي ظن منذ خمس سنوات, ان الفرصة للهيمنة على المشرق العربي وخصوصاً الجائزة الكبرى فيه (سورية) كل رهاناته ولم تعد اطاحته سوى مسألة وقت، إذ بدأ اركان حزبه «الكبار» يتحركون وقد تكون المفاجأة اقرب مما يتصور كثيرون.