مواجع الاباء / لابنتي التي ترقد على سرير الشفاء

                        مَواجِعُ الآباء       

     أفيقي يابْنتي لوتسمعين،استحلفُكِ بالله لو تعقلين،أهزُّ إليكِ جذوعَ

 الضّاد لو تنطقين،وأصرخُ،أبكي وأستبكي،وأنتِ عَجيزةُ نخلٍ خاوية أفيقي فهذا نيسانُ زائراً، تُورِقُ فيه الصّخور، وتبسمُ فيه أوابدُ الوحوش.أمَا تذكرينَ نيسان وكنتِ تنتظرينهُ على مفارق الد ّروب تعالي يابْنتي فلن يستيقظَ نيسانُ مادمتِ غافية. تعالي وتشدّقي بأيّة لغةٍ تشائين.تعالي ياشقيقةَ الشمس،وأشعلي بالابتسام أكوامَ الظّلام  يا أُخيّة الرّباب،مِن بَعدِكِ سوف يرتدُّ المطرُ،ويعلنُ العُصيان،ويلبسُ الأيكُ ثوبَ الحِداد،ويرحلُ الأقاحُ والأصباحْ !

     بَعدغفوتِكِ تسلّلَ إلى حديقة البيت قطعانُ البوم والغربان.

أتذكرين زهرةَ الرّمان؟أغمضتْ عينيها،واللوزة خلعتْ ثوبَ عُرسها،وشجرة العناّب تآختْ مع الزّّقوم،وشجرة العنب الأسود

نكّست عناقيدَها؛حبّات الليمون كأنّها رؤوس الشياطين. وفي كلّ

ليلةٍ تحتشدُ الورداتُ الجوريّة،وتقيمُ مأتماً ساحاتُ البيت يتسكّعُ

فيها الخُواءُ،فلا جزر يُعتصر،ولا قهوة تُهامِسُ الأُنوف وذاك القُميرُ هاجرَ الحديقة وضبابُ الصّيف الذي كان يحكُّ جوانبَه

بزجاج النّوافذ يُخْجلُني حين يسألُ عنكِ !

    علّميني كيف أجفّفُ قلبي من كلمة(بابا)؟كلُّ ترابِ الأرض

لن يُجفّفَ قطرة !علّميني كيف أمحو من مسمعي مقولاتِك:(وسّعوا

الميدانياهلا ابْطلّتَكْ)؟علّميني كيف أصرعُ إعصاراً ألغى بوصلةََ الطّب؟كيف أصرعُ(تسونامي)يتركُ كلَّ الشّطآن،ويتسلّلُ

إلى دماغِكِ؟إنّه غزوٌ مغوليٌّ آخر،يتعشّقُ المضادّاتِ الحيويّة

وينتعشُ،وينظرُ إلى نُطُس الأطبّاء بعين الاستهتار .يغزُّ راياتِه

في شرايينِك،وينشرُ جندَه وعرباتِه في عروقِك يُطاردُ أنفاسَك،

وينهشُ ابتساماتِك،ويستودعُ ترْسانتَهُ في عينيكِ

     يابارقَ الغيثِ عرّجْ عليها،وتلطّفْ واجرِ ذكري عندها،عساها تذكُرني !إنّها هناك مُسجّاةٌ على سريرها،يتنزّهُ الموتُ في حُجرتِها

ويُكشّرُ بوجوه عُوّادِها،ويتفحّصُ النّسائمَ من حولها اجْثُ على رُكبتيكَ ولا تخَفْ،ثمّ سدّدْ أُذنيكَ إلى ثغرِها لعلّكَ تسمعُ نَسيساً من

كلمة(بابا)،لعلّكَ تشتمُّ رائحةً من حنين،رُبّما تُسائلُكَ عنّي،رُبّما تشكو

غيابي علّها تطلبُ الكستناء،والتينَ المجفّف،أو تطلبُ الشمسَ والبحرسائلْها:هل تذكرينَ الشام،ومظانّ بردى؟هل تذكرينَ ربوعَ

الحرم المكّي؟هل تذكرينَ ربيعَ الأغوار،وروابي جرش وعجلون و

السّلط؟موسمَ الثلجأوقنديلا يخْبو بالعتمة؟لعلّها تريدُ المنديلَ الخمريّ.ذكّرْها بسوارٍ لم أفِ به،بعِقدٍ ضاع في المواعيد،بثرثرةٍ

على موائد الإفطارمَن يدري؟ قد تدّخِرُ ذُبالةً من شقاوتِها.لاتنْسَ

أنْ تُهامسَها ببيتٍ من الشعر يتغوّلُ في صدري:

      وكُنّا كندْمانيْ جُذيمةََ حقْبةً      من الدّهر حتّى قِيلَ لن يتصدّعا 

      فلمّا تفرّقْنا كأنّي و مالكِاً        لِطُولِ اجتماعٍ لم نبِتْ ليلةً معا

 

    مازالتْ طفولتُك لظىً في كبدي،تُروّي القوافي والمواجِع،

مازالتْ خُدوشُ أسنانِكِ تُنمنِمُ في باطن ذراعي وعلى بناني،مازالت

شِفاهي ترتعشُ حين أرى أباً يلثمُ طفلة،مازالت حقيبتُكِ المدرسيّة

تتجوّلُ في قصائدي،مازال طعمُ دمعكِ المالح يخبو في لساني،

ورقائقُ( الشّبس) مازالت(تُخَرْفِشُ)في مسمعي ،ورغوةُ (البِبْسي)

تُروّي مدمعي.

 

     هناك يابْنتي في الضفّة الأخرى من العالم،تقفُ ابنتُكِ الرّضيعة

(لمارا)بشعرِها الخرّوبيّ تُقاتلُ الغزوَ الغاشم بثلاثة أسلحة؛في يدها

اليمنى(رضّاعة)،وفي يدها اليسرى قطعةُ حلوى،وفي فمها شِواظٌ من صيحةِ(ماما)،فيرتدُّ الصّدى على كبدي سِهاما !مسكينةٌ لمارا

    لا تعرفُ أنَ أمَّها يعصِفُ فيها مرضٌ غريبُ الوجهِ واليدِ واللّسان،ليس له أذنٌ تسمع،ولا قلبٌ يخشع،يحلو له أنْ يُطلِق النار

على كلّ صيحةِ (ماما)وهو يتضاحكُ ويسكر.

   

    لمارا ياحفيدتي ، ياقارورةَ العطر،ياباقةَ الرَيحان،يا أُضمومةَ الياسمين ،تتضوعين طِيباً،يتدفّقُ في رئتيّ،مرّة كالجِمار،ومرّة كالنّسائم في أريجِكِ شظايا من وجْهِها،يغتلي فيها ارْتيابي،فأتقرّاها

بيديّ،أحاولُ جمْعَها ،فتتلاشى في أنفاسكِ بقايا من حكاياتِها،

استرِقُ السمعَ،عبثا أحاولُ،إنّها الحقيقة ,لمارا ماما سافرتْ وغداً ستعود هي الآن تُلمْلِمُ الغيثَ لكِ،تتسقّطُ النّوارَ،وتنْظِمُ لكِ القلائدَ،

والوعودَ،تتصيدُ لكِ العصافيرَ والفراشات ستعودُ وفي وِفاضِها

حقيبةٌ مدرسيّة حمراء،وأقلامٌ ودفاتر؛لتكتبي لها أنشودة الرّحمة،

والوفاءستعودُ ومعها الحلوى،وأكداسٌ من الأحلامِ والأشواقِ

والقُبل.

 

      تعالي يا لمارا،أنا وأنتِ والأحزانُ،نترقّبُ الرّعودَ والسنابل،

تعالي نرُصّ الصّفوفَ،ونُلقي أكوامَ الأدوية في غَيابة الأرض أنا

وأنتِ والأحزانُ،وكلُّ صيحةِ ماما على شفاه الأمهات،وكلُّ دمعةِ طفلٍ،وكلُّ أملٍ مهزوم،نتكاتفُ،ونوجّهُ تحذيرا شديدَ اللهجة إلى هذا

الغازي،نشْجُبُ بَغْيَهُ،نشبعُ غضَبا ! نُوسِعُهُ شتْماً،هيهات هيهات فقد

أخذَ الإبل !

    

     يا أيّها الحزنُ،سأعرِضُ اليومَ عليك الصّلحَ ،سنأكلُ الملحَ سويّا،وسأقُدُّ الزّادَ بيني وبينكَ ،والعهدُ بيننا،فلا إنكاث ولا إغلال

(خاويني)،خذْني معكَ إلى القِفار والقيعان،اشْطُبْ أبوّتي،خذْ قلبي

وحنّطْهُ،خذْ كبدي وارمِه للكلاب،ضعْ غِشاوةً على بصيرتي،اقتلْ ذاكرتي،لكنْ إن استطعتَ ضعْ في فمي كسرةً من صبْرعلّمني كيف أجذّ الماضي؟وكيف أقطعُ نسلَ الآتي؟صادرْ مني كلَّ فرحةِ لقاء،وأيّسْنِي من قراءةِ أذكارِ الصّباح في عيون الأبناء.

 

    يا ربّ يا محيي العظامَ وهي رميم،يا كاشفَ الضُرّ عن البائسين

،يا باعثَ الرّجاء،يا مُجيبَ النّداء،يا دافقَ الرّواء في الأغصان، يا

جامعَ الأُلاّف، يا قادحَ النّبض في القلوب،يا غزيرَ الرّحمة،يا سائقَ

السّحاب،يا مُبيدَ الْيباب َجنّبْنا وعْثاءَ الدّرب،وطخْياءَ الظّلام،وارْحمْ

ابنتي،شافِها وعافِها،ولا تُفجِعْ أباً مكدوداً،ولا أمّاً مكلومة، ولاطفلا ينمحي من ذاكرة أُمّهِ ،فأنتَ القادرُ والقاهر ارحمْ عبادَك بلطفك،و

تحوّطْهم بعطفك قِنَا الفواجِعَ والمِحن ألهمْنا الصّبرَ،ولا تمْتحِنّا،فلا

قِبَلَ لنا اللهمّ إنْ كان اختباراً فالحمدُ لك،وإنْ كان ابتلاءً فالحمدُ لك،

فإنّه لا يُحمدُ على مَكروهٍ سِواك.

 

 

                                                                                  د. حسين مناور           

                                                                                 جامعة الملك فيصل            

         المملكة العربية السعودية

0776415885

0776505082