الدور الثقافي لوزارتي الثقافة والتربية
سهولة حرق شجرة الهجيجة التي عمرها 800 سنة في الغور الشمالي من متنزهين، يوم الجمعة الماضي، يشبه تماماً سهولة هدم الأبنية الطينيّة والحجريّة في قرى الأردن والتخلص من إرثٍ ماديّ عريق وقديم يمتد في غور التاريخ إلى آلاف السنين، وينطوي على هويّة ومعارف، لتحل مكانها أبنيةٌ إسمنتيّة قبيحة من خارج السياق الطبيعي، أو أبنيةٌ مدنية فاخرة ومن خارج السياق الثقافي، في ريفٍ اضطرّ أصحابه إلى بيع الأرض إلى النوفوريش الجديد. فمنطقتنا التي تكتنزُ في مدائنها وأريافها وصحرائها وفي جوف أرضها أسرارَ ومعالم حضارات باهرة، تخلَّت باسم حداثة مزيّفة وتحديث أرعن عن شخصيّتها العمرانيّة والبيئيّة، بسبب هدم الجميل لصالح البشاعة، والتعامل الجائر مع الطبيعة وعناصرها، وإفراز ذائقة فاسدة ها هي تتبختر في كلّ مكان، وتصدمُ عيوننا بما حوته من مفردات دخيلة على الثقافة المحليّة والعربيّة.
فالبشاعة أيضاً قد تكون في زجّ الفاخر الأوروبيّ المزركش الفاضح شهوةَ المال والإنفاقَ السّفيه، في طبيعة كانت تعجُّ بالأشجار، أو بيئةٍ تتمتَّعُ بجمال فطريّ، فيأتي هجينُ سلة التين، في غياب رقابة من مؤسّسة رسميةٍ أو قانونٍ، فيزيلُ تلالاً، ويقطع أشجاراً، ويتطاول على حقولٍ زراعيّة فيعدمها، من أجل أن تتشاهق أبنيةٌ وعماراتٌ وأبراجٌ.
على صفحته على "فيسبوك" ينشر المهندس الفنان المبدع عمار خماش صوراً كان وما يزال يوثّق بها أمكنةً وبيوتاً وقرى وجبالاً وودياناً وبوادي، اندثر كثيرٌ منها، أو جار عليها الإنسان في الأردن. وهي صورٌ لمن يتابعها، تنبئُ عن حبّ عميقٍ وانتماء أصيل، لا يحتاجُ معها إلى خطب رنانة. وقد جعلتني هذه الصور الثمينة أزداد حباً لبلدي لأنها كشفت لي عن ثروات جماليّة وثقافيّة وعمرانيّة وتاريخيّة، مُحِيَ منها عدد غيرُ قليلٍ، تاركاً ذكراه في هذه الصور الثمينة. وكلّ تلك الفوضى جاريةٌ على قدمٍ وساقٍ، بسبب أمرين:
الأول: الجهلُ وانتشارُه على أوسع نطاق من أسفل الهرم الاجتماعيّ إلى المسؤول الأول عن الثقافة والبيئة والعمارة. وهذا الجهل متأتٍ عن إخفاق ذريع للمنظومة التربويّة التي تخلو من تربية حضاريّة وثقافيّة تؤسّسُ لتعامل صحيّ وسليم مع البيئة بجميع أنواعها وعناصرها. كما تخلو من إعداد أجيالٍ تحبُّ الجمال وتحرصُ عليه، وهو جوهرُ العجز في تأهيل المعلمات والمعلمين، وفي إعداد المناهج والكتب المدرسيّة التي تطفحُ بأشكال من القبح يعجز عنه خيال مريض.
والثاني: غيابُ رقيب ثقافيّ يُنشئ آليات وبنيةً قانونيّة تحمي الطبيعة وكائناتها، والعمران البشريّ من المحو والتدمير والتزوير والتزيُّد على حساب الشخصية الحضارية للبلد/ ومن الاستخدام السيّئ للعناصر الثقافيّة ولمفردات البناء. وهذا الرقيب الثقافي ليس مكانه في البلديات، مع الاحترام الشخصيّ للعاملين فيها، بل في وزارة الثقافة أولاً وقبل وزارة البيئة والزراعة والسياحة. فدور وزارة الثقافة لا يقتصر على الكتب والندوات والمؤتمرات والمهرجانات ومعارض الكتب، بل يتعداها إلى امتلاك المقدرة والفاعليّة على حماية الملكيّة الطبيعيّة للطبيعة كما خلقها الله، وحماية التاريخ ومستنداته من تدميره والعبث به، وحماية الشخصيّة الثقافيّة المحليّة من هوس التجار وغباء أغنياء الطفرة.
فهل من مجيب؟
لعلّ أملاً يتسلّلُ وسط هذا الظلام!