عبدالعزيز العُطّي.. القامة والقيمة

هي رحلة العمر التي انتهت يا ابا الوليد.. من ياسور على شاطئ غزة مروراً بالجفر وانتهاء بمقبرة الرصيفة القديمة، حكاية بطولة وشقاء وثقة وتفاؤل, لإنسان حافظ على نقائه ونزاهته وسعة صدره وطيبته. لم تُغْرِه المواقع ولا حَلُمَ ذات يوم بالمناصب او أعار أهمية للصغائر، مهما لبست لبوس الكلمات الرنانة والمصطلحات المُلونة, التي كانت تُخفي في طيّات حروفها, مطامع واحقاداً وحزازات ونكايات, وصولاً بل ــ دون أي وازع اخلاقي او انساني او نضالي ــ انتهازية ووصولية وتصفية حسابات وتربّص.


هو عبدالعزيز احمد العُطّي, الذي رحل عن دنيانا ,جَسَداً, في الثالث من شباط الجاري، بعد رحلة مجيدة من النضال والاخلاص والتفاني في العمل والايمان بالفكر الذي انتمى اليه, عن قناعة وسابق اصرار, دَفَعَ من أجل استمراره ونجاحه وتجسيده على ارض الواقع,حرية وعدالة اجتماعية ومساواة وتحرّراً وطنياً, الاثمان الباهظة والاكلاف الكثيرة, اذى جسدياً واحتجاز حرية و معاناة وتشرداً, وانعكاس ذلك على عائلته الصغيرة زوجة صابرة واطفالاً كُتِبَ عليهم ان يسمعوا عن أب لا يرونه جراّء سَجْنِه, لكنه كان مصدر فخر واعتزاز لهم ولغيرهم,كان ولم يزلْ.

رجال من قماشة عبدالعزيز العُطّي ومَنْ جايلوه وعملوا معه ورافقوه في مسيرته النضالية الطويلة, المفعمة بالأمل والتفاؤل والمثقلة بهموم الشعبين الاردني والفلسطيني خلال فصول المؤامرات الاستعمارية التي سبقت النكبة وبعدها...كُثْر. هؤلاء الرجال الذين لم يعرفوا ذات يوم الاقليمية او الجهوية او الطائفية، ولم تَرِدْ في قواميسهم الأممية والقومية والوطنية خلال سنوات النضال وارتفاع منسوب النضال و الغضب لدى الشعوب العربية، اي كلمات تتحدث ,ولو تلميحاً, عن المذهبية او المناطقية او تقف أمام اندفاعهم العفوي والنقي للدفاع عن حقوق الشرائح المُسْتَضْعَفَة والمُفَقّرة، عقبات مُفتعَلَة, من قبيل الجنس او العرق او اللون أو الأصل السكاني او المكاني, للولادة او الأصل او الدين..

عبدالعزيز العُطّي الذي رحل عن دنيانا، لم تَلِن له قناة ذات عقد او سنوات من حياته المديدة,ولم يُغادِره التفاؤل او الثقة, بأن الاستبداد والفساد في بلاد العرب ومعظم دول العالم الثالث, التي اعتلى سلطتها جنرالات ومغامرون وآفاقون جيء بهم بانقلابات مُدبَّرة في الغرف السوداء، او تسللوا ذات ليال سوداء على ظهور دباباتهم لإعلان البيان «رقم واحد» وتلاوة قسم تحرير فلسطين، هذا القسم المُزيّف والمراوغ والكاذب الذي منح «الشرعية» لبعضهم, ظناً من الجماهير العربية المطعونة في كراماتها وقوميتها بعد ضياع فلسطين ودخولها بازار العرب المفتوح منذ سوق عكاظ حتى الان...أنهم «قد»يتوفروا على بعض الصدق والوطنية.

اصابت الحرب الاجرامية التي ارتكبها مجرمو الحرب في تل ابيب على غزة تحت عنوان «الجرف الصامد»، عبدالعزيز العُطّي, وكادت مأساتها ان تمسّ قلب الرجل الذي ارتفعت معنوياته وتغلب على احزانه جراء الصمود الفذ وغير المسبوق الذي ابداه شعب غزة ومقاوموها من مختلف الفصائل، لكن الغضب استبد به وهو يرى كل هذا التخاذل الذي ميّز المشهد العربي، حيث لم تتغير الاساليب والمقاربات القديمة والبالية التي دأب الجمهور العربي على التعاطي بها، في تواصل العدوان الاسرائيلي وفي استمرار السلطة الفلسطينية التمسُّك باتفاق اوسلو وملحقاته المُذِلة, التي خصمت من الرصيد النضالي والحقوقي للشعب الفلسطيني دون ان تعود عليه بالفائدة او تدفع المعتدين لإعادة النظر في مواقفهم.

لَعَنَ ابو الوليد، نبيّ الغلاسنوست والبريسترويكا المزيف, ميخائيل غورباتشوف وأبدى حسرة اقامت في صدره وعقله حتى لحظة لفظه انفاسه الاخيرة، على رجل تافه ومُتآمِر, تسلل او دُفِعَ به الى مقدمة صفوف القيادة السوفياتية, ليُعمِل في هياكلها , معاول الهدم والبيع والتخلي عن مكتسبات وامجاد سبعة عقود من الصمود في وجه الامبريالية والرأسمالية المتوحشة, ليغدو العالم تحت هيمنة تُجار الحروب والمغامرين والسرّاق الدوليين الذين مارسوا البلطجة وشنوا الحروب ومزّقوا المجتمعات واشاعوا الفوضى في معظم انحاء العالم, تحت راية تصدير الديمقراطية والحريات واصطناع الثورات الملونة وافتعال ربيع عربي لم تجنِ منه الشعوب العربية غير البؤس والدمار والخراب وسفك الدماء والفوضى.لكن الرجل الذي وهب حياته وناضل من اجل حقوق الشعوب في تقرير مصيرها غمره الرضى ووجد العزاء عندما بزغ فى الفضاءين الروسي والعالمي رجل اسمه فلاديمير بوتين.

قامة مثل عبدالعزيز العُطّي, ستبقى شامخة في كتاب التاريخ الاردني الفلسطيني وقيمة اخلاقية وانسانية، تميزت بالتواضع والنقاء والنزاهة وأَعْلْتْ من مفاهيم التسامح والنبل ونكران الذات والارتفاع عن الصغائر والمماحكات وتَمَسُّكاً بكل الاهداف النبيلة التي نذر نفسه لتحقيقها.

لتبقى ذكراك أبدية يا أبا الوليد, وسلام على روحك الطاهرة.